رمضان في لبنان: تنعّم وتكيّف وفقر عبر أزمة مزمنةhttps://www.majalla.com/node/313791/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B1%D9%85%D8%B6%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%86%D8%B9%D9%91%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%8A%D9%91%D9%81-%D9%88%D9%81%D9%82%D8%B1-%D8%B9%D8%A8%D8%B1-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D9%85%D8%B2%D9%85%D9%86%D8%A9
يجسد شهر رمضان المشهد الأكثر دقة للوضع المعيشي للبنانيين. وسط أزمة مركبة، ولغز مُحيّر منذ 4 سنوات حول كيفية عيش اللبنانيين وقد انهارت عملتهم الوطنية، يضع رمضان الصائمين على مدى ثلاثين يوما في احتكاك مع الحدّ الأقصى لقدرتهم الشرائية في تأمين الإفطار، وهو أهمّ ما يحتاجون إليه، وأوّل ما يتقدّم قائمة الأولويات.
في الأسواق، وفي المطاعم، والخيم الرمضانية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، تشيع كثافة الإقبال على الشراء والترفيه علامات تعجّب عن حقيقة وجود أزمة اقتصادية. وفي واقع موازٍ، لا يتخلّى اللبنانيون عن تكرار شكوى "كثرة الحركة وقلّة البركة"، التي يمكن وضعها في إطار عالمي في البلدان الصائمة التي يشكو فيها المواطنون المتدفقون بكثافة إلى الأسواق، استياءهم من ارتفاع الأسعار.
المشهد هذه السنة يستبطن تحوّلات عديدة. لا شكّ أنّ استقرار سعر صرف الدولار للمرّة الأولى في رمضان منذ أربع سنوات شكّل عاملا مهمّا في ركون الناس إلى معايير استهلاكية ثابتة. غير أنّ شيئا فيمظاهر إحياء رمضان والسلوك الاستهلاكي عند معظم اللبنانيين، يبدو تثبيتا لتسوية مع الأزمة. وبشكل متناقض، يوحي آخرون بأنّ الأزمة أنعشت الأحوال.
الخيم الرمضانيّة
في أثناء صدور تقرير عن "مؤشر هانكي للبؤس العالمي" لعام 2023، يصنّف لبنان في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر بؤسا في العالم، والأول عربيّا، تنتصب الخيم الرمضانية لتوحي بالنقيض.
استقرار سعر صرف الدولار للمرّة الأولى في رمضان منذ أربع سنوات شكّل عاملا مهمّا في ركون الناس إلى معايير استهلاكية ثابتة
تعود هذه الخيم بعد طول غياب إلى ليالي العاصمة بيروت. وفي ما تدلّ على مظهر من الرخاء، تُذكّر اللبنانيين بآخر فترات الاستقرار في منتصف تسعينات القرن الماضي، وكانت إحدى مشاهدها الخيم الرمضانية التي رسخت في أذهان المشاهدين في البلدان العربية مع ازدهار النقل المباشر عبر الفضائيات.
وأهمّ الخيم موجودة في مجال "البيال" البحري، تستقطب على نحو يوميّ فنانين ومشاهير من الصف الأول، ضمن الأجواء الرمضانية المعهودة من المأكولات التقليدية والأركيلة وسهرات الفتلة المولوية التي يؤديها "الدراويش" والموسيقى الشرقية. أمّا في وسط بيروت، فتغرق القرية الرمضانية باللبنانيين والسياح، حيث تنتشر الأكشاك التي تروج لمأكولات الشارع، وهناك زوايا خاصة بالملابس والحرفيات وحتى العناية بالأظافر.
وخلال أسبوع واحد، جرى تشييد قرية رمضانية في "فوروم دو بيروت"، بنمط الخان العربي القديم، وهي الأضخم، على مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع. يعتمد الخان على أسلوب "قاعة الطعام" ((food courtالمشتركة، وتنتشر على أطرافه أركان لألعاب الأطفال ومسابقات للراشدين، إضافة إلى مسرح تُعزف عليه الأغاني الطربية القديمة، وتتمايل الشابات والبنات الصغار على وقعها. ويتطلب الدخول إلى الخيمة تعرفة 5 دولارات للشخص الواحد، و3 دولارات موقفا للسيارات، فضلا عن كلفة الطعام التي تتضاعف أسعارها مقارنة بالسوق.
من الصعب أن يجد الزوار في "الفوروم" طاولة فارغة. مأزق وقعت فيه مايا، الآتية من صيدا مع أسرتها. فاقترحت تشارك الطاولة مع صبيّتين، رحّبتا بها دون تردّد.
الموظفة في القطاع العام والأم لثلاثة أولاد تقول لـ"المجلة": "هذه السنة مختلفة. الناس اختنقوا بما فيه الكفاية، ويريدون الترفيه عن أنفسهم. نحن اقتنعنا أنّ لا حيلة لنا في تغيير الواقع، سواء مشاكل لبنان المزمنة أو الحرب الدائرة في الجنوب. ونعلم أنّ الدول العربية لا تصدّق أنّنا في أزمة، ولن تنجدنا بعد انتهاء الحرب. لكن الخلل ليس عند هذا الشعب، بل لدى الطبقة السياسية الحاكمة التي تختلف في كلّ شيء وتلتقي على مصالحها". تضيف: "نحن نبحث عن فسحات الفرح. صحيح أنّ الأسعار مضاعفة، وحجم الوجبات صغير مقارنة بالسعر، لكننا موجودون ليبتهج الأطفال. ثمّ علينا أن نعترف بأنّ الشعب اللبنانيّ يحتفظ برغبة موروثة دائمة بالحياة وإشاعة الفرح، هكذا نحن".
وتشير إلى أنّ أهالي صيدا يحيون ليالي رمضان النابضة بالاحتفاء والسهر في أسواقها وخاناتها ووسط البلد، وأنّ التصعيد العسكري في جنوب لبنان لم يمنع المدينة من مزاولة تقليدها السنوي.
في طرابلس، وهي أهم أقطاب المدن الرمضانية، تُنظّم قرية رمضانية مفتوحة في معرضها الدوليّ ويقصدها لبنانيون من مختلف أقضية الشمال، في مشهد يعكس تعطّشاً للإفلات من الهموم. وفي مراعاة لمزاج المدينة المحافظة، لا يمكن عدم إقران المظاهر الاحتفالية بطيف إسلامي، فخُصّصت مساحة لعرض الأثر النبوي الشريف.
وتنتشر بالمجمل علامة فارقة في ارتداء المشالح والعباءات، التي كانت سابقا معتمدة في بعض سهرات السحور. لكنها تبدو هذا العام نمطا لموضة رمضانية، إذ تخرج الشابات إلى الشوارع بالمشالح فوق الجينز، أو بالعباءات ذات النمط المغربي. وتروج لدى السيدات بأسلوب يوحي بالمبارزة الطبقية، من خلال ارتداء عباءات وقفاطين فخمة مع إضافات برّاقة في التطريز والاكسسوار، وبدأ الرجال اللبنانيون بارتداء العباءات العصرية.
المطاعم والحلويات
في سياق مترابط، ثمّة مَن لا يلقون بالا لتكاليف مائدة رمضان. يغزون المطاعم منذ اليوم الأول من الشهر، وسط مزاحمات ساخنة بين المطاعم انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تقديم العرض الأكثر إغراء.
هذا ما لمسته آلاء (32 سنة) حين أرادت حجز طاولة لأسرتها في مطعم طلب 35 دولارا للشخص الواحد، وهناك مطاعم تطلب 55 دولارا للشخص، والأرقام ليست متواضعة بالنسبة إلى وضع المعيشة في لبنان، "أخبرني الموظف أنّ الحجوزات مكتملة قبل أسبوع، وعليّ أن أحجز في حدود هذه المدة لأضمن مكانا".
في عام 2023، بلغ عدد المهاجرين من لبنان 175 ألفا و500 مهاجر، وقد ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف عن 2022
تتابع أن الازدحام لا مثيل له في محل الحلويات الطرابلسي الشهير والأكثر غلاء على مستوى لبنان، حيث كانت المنشورات في كل موسم رمضاني تشبّه حلواه بـ"الجواهر" تعبيرا عن انتقاد الغلاء عبر المواقع الافتراضية. على أرض الواقع، "انتظرت 40 دقيقة، وكان المحل يغصّ بالزبائن والزحمة خانقة، فانتظرت في الخارج".
تنسحب هذه المظاهر ولكن بمستويات مختلفة على أحياء بيروت الشعبية، من طريق الجديدة، والبسطة، وعلى الجهة الثانية من برج أبو حيدر في حيّ اللجا، حيث يلاحظ في ساعات النهار اختناق السير بسبب الإقبال على شراء الحلويات، وبعض المحال تعرضها على الأرصفة، فيُشاهد الناس متحلقين حول صدر الكنافة بالجبن التي يسكب عليها الحلونجي القَطر، وهناك مَن يفضّل الحلوى الجافة مثل الصفوف والنمّورة وكعك الخميس. ولم يفقد الكلاج والكربوج شعبيتهما في رمضان، إلى جانب القطائف التي تعدّ رخيصة نسبيا، تُحضّر خصوصا في المناطق الشعبية على صفائح حديد تحت عيون الناس وتحت طلبهم، فيلاحظ أن أغلب المارة الذين يمشون على رصيف محل للحلويات، يحملون كيسا مدموغا بشعار المحل.
إيجاد البدائل
على اختلاف المستويات الاجتماعية وخياراتها، يعكس نمط اللبنانيين في رمضان ممارسات من "إدارة الخطر الاجتماعي". هذا المفهوم، يعتبر أحد المفاهيم الشمولية التي أعدّها وطوّرها البنك الدولي، ويندرج هنا ضمن التضخم الاقتصادي وتداعياته على مستوى العيش. ويسري عبر ثلاث مراحل هي: مرحلة الوقاية، ومرحلة التخفيف أو التلطيف، وأخيرا مرحلة التعامل مع المشكلة بنجاح.
هكذا تخلّت نسرين (35 سنة)، عمّا تصفه بالرفاهية على مائدة الإفطار، "أقراص الكبة واللحم بعجين مكلفة وليست أساسية، فاستعضت عنها برقائق الجبن، التي تساعدني ابنتي في صنعها فنتشارك أوقاتا من البهجة والاكتشاف".
تعمل الأم الشابة في مطبخ مجتمعي يحضّر الأطباق اليومية لخدمة المجتمع، لكنها غير قادرة على شراء إفطارها من المطبخ "لأن التكلفة مرتفعة. أعتمد في رمضان تحضير طبخة تكفينا يومين. نسينا موضوع الخروج إلى المطاعم"، تقول لـ"المجلة".
تسأل: "مَن قال إنّ تفاصيل رمضان التي كانت تُسعدنا في الصغر هي نفسها لدى أطفالنا؟ كنت أحب لبس الفساتين، اليوم لا تعني الفساتين شيئا لابنتي. وهذا ما يشجّعني على الاقتصاد في ملابس العيد. لا أنوي شراء سوى بعض النواقص للظهور في حلّة مرتبة".
وصول التفضيلات إلى موضوع الأكل، يؤشر إلى وصول هذه الشريحة إلى مرحلة متقدمة من الاختناق
لا تقصد الأم العاملة السوق لشراء مؤونة رمضان. تقارن يوميّاتها بما كانت تعيشه في منزل أهلها، "كانت جدتي تصطحبني معها إلى سوق القمح لشراء حاجيات رمضان. أنا اليوم أكتفي بشراء ما أحتاج إليه يوميا".
تنتمي نسرين وزوجها إلى الطبقة العاملة المتعلّمة التي كانت قبل الأزمة اللبنانية تشكّل الفئة الغالبة من الطبقة الوسطى، التي تُعدّ الأكثر تضرّرا بفعل انهيار المعاشات وغلاء الموارد الأساسيّة. راحت تقتصد في العادات الرمضانية، من التبضع، إلى التفريز، وحتّى نوعية الطعام.
صمود الأكثر تعلّما
يمكن استخراج محاكاة لافتة للواقع اللبناني في دراسة مؤسسة "ماكنزي" العالمية المتعلّقة بالآثار الناجمة عن انهيار العملة في المكسيك في عام 1995، والوسائل التي اتبعتها الأُسر للتعامل معها. وعلى الرغم من أنّ النموذج المكسيكي كان أقلّ حدّة، بحيث انخفضت معدلات الأجور بنسبة 20 في المئة في مقابل 90 في المئة في لبنان، فقد خلص تحليل البيانات للمسوح الاجتماعية إلى أنّ التأثير كان أكثر حدّة على الأسر ذات المستوى التعليمي الأعلى.
وفي لبنان، يكشف رمضان نوعا من المناورة مع الأزمة لدى الأكثر تعلّما، ممن لم يهاجروا ملتحقين بجحافل الأدمغة التي حرّكت موجة هجرة جديدة ومتصاعدة باستمرار. ففي عام 2023، بلغ عدد المهاجرين من لبنان 175 ألفا و500 مهاجر، وقد ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف عن العام 2022، حيث بلغ عدد المهاجرين 59 ألفا و269 لبنانيا، بحسب الدولية للمعلومات.
هذه حال شذا، الأستاذة في الجامعة اللبنانية. نلتقيها أمام محل للبقالة في سوق العطارين في طرابلس. تطلب ما تريد: "بدّي من اللوز يلي عامل حاله صنوبر".
يغزو الأسواق في السنوات الأربع الأخيرة صنف من القلوبات معروف بـ"اللوز الصنوبري"، وهو اللوز المقطع بالطول في حجم حبّة الصنوبر، ولكن سعره ينخفض إلى أقل من نصف قيمة الأخير، وهو مطلوب بشكل واسع كأنه تعويض عن الصنوبر، الذي يكاد يختفي من المطاعم سوى في نطاق ضيق من المطاعم الفاخرة.
وتعبّر الأستاذة في الجامعة اللبنانية عن معادلة تواسيها لترميم ما كسرته الأزمة الاقتصادية: "لا أحد في طرابلس يتخلّى عن صحن الفتة على مائدة الإفطار. لا آكل الصنوبر ولكن في إمكاني تزيين صحني باللوز، وغيري يزيّنه بالخبز المحمّص، وهناك من لا يستطيع تزيين صحن الفتة، أو أكله".
كما بدلت شذا نوعيّة حبوب الحمّص، "الحبّة المكسيكية أكبر ولكنها أغلى ثمنا. ممَ يشكو الحمص البلدي؟".
تحرّك المستويات الاجتماعية
الباحثة في الأنثروبولوجيا الدكتورة مها كيّال تتحدث لـ"المجلة" عن تعاطي اللبنانيين مع الاستهلاك في رمضان، الثابت والمتحول منه.
في رأيها، يحتفظ رمضان بطقوس الطعام المختلفة عن بقية الأشهر، وهذا التحول في عادات الطعام تعيشه كلّ فئات المجتمع. المفارقة أنّ ذوي الدخل المحدود المستجدين بفعل الأزمة ينتقلون من إحياء "العادة" إلى فعل "التكيّف".
وتلاحظ أنّ هؤلاء يلجأون إلى خيار مائدة الطعام بما يتفق مع الإمكانات الضعيفة المتبقية لديهم. ويؤشر وصول التفضيلات إلى موضوع الأكل، إلى وصول هذه الشريحة إلى مرحلة متقدمة من الاختناق، أخذا في الاعتبار أن الطعام هو العنصر الأول في سلّم الحاجات الإنسانية: "عدّلت هذه الأسَر في مفاهيم الكماليات لتستطيع تأمين الحد المنسجم مع خصوصيتها. والهدف هو الرغبة بأن تبقى متصلة برمضان. إحدى هذه الكماليات باتت ثياب العيد، وهذا يساهم بمزيد من الشعور بالاختناق والقهر، لأنّ التسوّق يحمل جانبا نفسيّا يساعد في التنفيس ولو بشكل مؤقت. يمكننا في لبنان ملاحظة تفريخ متاجر فضلات الماركات العالمية ((Outlets، وتقصدها هذه الأسر من أجل تأمين حاجياتها وفقا لمعاييرها المعتادة. هذا أيضا من إشارات تدهور موارد هذه الطبقة ومحاولتها للتكيف".
من جهة أخرى، تعتبر كيّال أنّ أهم فوارق رمضان هذه السنة تكمن في استقرار ملامح طبقة اجتماعية مقتدرة، "قد تكفي مراقبة المطاعم الباهظة التكلفة، لنجد أنّ قسما كبيرا من روّادها هم من الوجوه الجديدة التي اغتنت".
تستنتج الباحثة أنّ رمضان اليوم هو كذلك رمضان بعد مرور 4 سنوات على الأزمة اللبنانية، ونستطيع معاينة إحدى أهم نتائجها على مستوى تحرّك المستويات الاجتماعية في لبنان: الفئات التي كانت تعيش مستوى ما دون الوسط هي التي تنعم برخاء اقتصادي، وتضم خصوصا الحرفيين وأصحاب المصالح الحرة، وهم عكس الموظفين وأصحاب الشهادات العليا الذين خسروا 90 في المئة من قيمة معاشاتهم وكانوا يشكلون الغالب الأعم من الطبقة الوسطى.
وتشير كيّال إلى أنّ رأيها مبنيّ على مشاهدات ويؤسّس لفكرة أنّ التقييم العلمي للقدرة الشرائية في رمضان يستدعي التعمق في تحرك الطبقات الاجتماعية في لبنان من خلال البدء برصد ميداني للسوق وللسلوكيات الاستهلاكية: مَن يستهلك ماذا، ولأي هدف.
رفاهية الفتّوش
في سوبرماركت توفيرية كبيرة في شارع الحمراء ببيروت، تنحني سيّدة مسنّة لتفحّص شوال البصل. وجدت حبتين ذابلتين، فطلبت من الموظف شوالا آخر وراحت تعاين حبّاته واحدة تلو الأخرى. لا ترضى عن وضعها عموما "ولكن الشوال يظل أرخص. أستطيع أن أوفّر من خلاله ما يقارب 100 ألف (نحو 1.2 دولار).
يدرس "مؤشر الفتوش"، تكلفة المائدة الرمضانية للأسرة اللبنانية الواحدة ومقارنتها مع الحد الأدنى للأجور
على بعد خطوات، تسأل صبيّة عن سعر الخسّ، يكون الجواب "130 ألف ليرة". ترمي الخسّة. لن تشتريها "مستغنية. سيكلفني صحن الفتوش بقرة جحا".
يسيء اللبنانيون عدم فهم السبب الذي يؤدي إلى تحليق أسعار الخضر بشكل خاص في رمضان. وفاقم الوضع تزامن رمضان هذه السنة مع صيام الطوائف المسيحية. وفيما تعتبر الخضر عادة أقل غلاء من اللحوم، تنقلب المعادلة، ليصبح حضور صحن الفتوش يوميا على المائدة الرمضانية ضربا من الترف.
لهذا السبب، ينتشر في السنوات الأخيرة تقرير يصدره مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت على أبواب رمضان تحت مسمّى "مؤشر الفتوش"، بهدف دراسة تكلفة المائدة الرمضانية للأسرة اللبنانية الواحدة ومقارنتها مع الحد الأدنى للأجور. وقد رصد ارتفاعا بمعدّل 187% في المئة في العام الماضي، بينما لم يصدر عنه تقرير هذه السنة.
من جهة أخرى، يظهر تقرير وزارة الاقتصاد اللبنانية عن "السلة الغذائية" في 18 مارس/آذار الجاري، أنّ أسعار الخضار الطازجة ارتفعت بنسبة 64% في المئة وأسعار اللحوم ارتفعت بنسبة 19% في المئة بالمقارنة مع التاريخ نفسه في العام الماضي.
هذا الغلاء، يضاف إليه ترهّل أو غياب آليات حماية المستهلك لدى الأجهزة الرسمية، يساهم في إزكاء انطباع اللبنانيين بأنّهم فريسة لجشع السوق، وأنّ لا سقوف للغلاء أو محاسبة للتجار.
لماذا الخضر بالذات؟
الباحث في الاقتصاد رامي أسّوم، ينطلق من أنّ احتقان اللبنانيين وشعورهم باستغلال التجار في رمضان، هو استجابة شعبية جماعية متوقعة ومشروعة ممّن يواصلون منذ أربع سنوات معايشتهم أحد أضخم الانهيارات الاقتصادية في العالم، تخلّله فقدان ودائعهم المصرفيّة.
ولكن لغلاء الخضر في رمضان إطارا موضوعيا يجب الوعي به، وهو الأساسي والقائم بمعزل عن العوامل الظرفية والخاصة من انهيار مالي أو غياب آليات المراقبة أو المحاسبة القانونية وغيرها. فالظاهرة تشمل كلّ البلدان التي يحيي أهلها شهر رمضان، والصرخات مسموعة في معظم هذه البلدان، وفي لبنان منذ ما قبل الأزمة، بحسب الباحث.
ويعزو أسّوم الأمر إلى عملية متشابكة من عوامل عدة أهمها قانون العرض والطلب، وفي موضوع الخضر يتظهّر هذا القانون بوضوح، بسبب صغر حجم السوق الداخلي، وبالتالي الإنتاج المحدود لسلع الخضر التي لا يمكن تخزينها مقابل طلب مرتفع خلال فترة محدودة، بعكس السلع التي يمكن تخزينها كالأرز والحبوب واللحوم التي يتزايد الطلب عليها عالميا في رمضان لكن أسعارها لا ترتفع بمستوى ارتفاع اسعار الخضر. كما ينبغي النظر إلى خصوصية مرتبطة بطبيعة السلعة ووضع السيولة في هذا الشهر، مشيرا إلى زيادة السيولة عند اللبنانيين في رمضان بسبب كثرة أموال الزكاة والحوالات من الخارج، في مقابل شحّ السلع.
ويشرح عبر "المجلة" أنّ "سلسلة القيمة التجارية للخضر تتدرّج من المورد الأساسي إلى البائع ثم المستهلك. يقع تضاعف الأسعار على مستوى التبادل بين المورّد والتاجر. ذلك أنّ الطلب على شراء الخضر يتزايد خلال شهر رمضان في المطاعم والبيوت. وحين يقوم البائع بتأمين حاجات السوق، تدور المزايدات بينه وبين البائعين الآخرين، لأنّ الكمية محدودة، والمورد الأساسي يفضّل أن يبيع منتجاته لمن يعرض السعر الأعلى. يضاف إلى ذلك أنّ مكونات صحن الفتوش من الخضر، مثل الخس والبندورة والبقدونس والبصل، يستحيل تخزينها أو تفريزها، وبالتالي فإنها أكثر المنتجات التي تتضاعف أسعارها في رمضان".
الأكثر حرمانا
رمضان هذا العام حقل خصب لمشاهدة ما آل إليه الوضع الاجتماعي للبنانيين بعد أربع سنوات من الأزمة. إن لم يكونوا من المجموعات المستفيدة، فهم من الغالبية التي تمرنت على لعبة القفز بين الهوامش، يمارسونها بحرص واقتدار. وهناك من لا تحوي حياتهم سوى الهامش، يلوذون به دون جلبة أو إلقاء مسؤوليات. هم غير مرئيين تقريبا: في ركنٍ مهمَل من سوق العطارين، الذي يزدحم بالناس في حمى ساعات التسوق، تفوح رائحة خضر متعفنة بجوار شوال بطاطا فاسدة غارقة في الأوحال. بجانب الشوال، رجل مسنّ يبدو عليه بؤس قديم. يمسك سكّينا مستدقا، ينقر الرؤوس الخضراء السامة في كلّ حبّة بطاطا، رأسا رأسا، ثمّ يضع البطاطا في كيس نايلون صغير. يقول إنّه يحضّر طعاما للعائلة.