ثمة في الأفق منعطف ضيق قد يساعد في الخروج من جحيم غزة، فلعل وقف إطلاق النار المؤقت وإطلاق سراح الرهائن أن يمهدا السبيل إلى تغيير الحكومة الإسرائيلية؛ ومن الممكن احتواء فلول مقاتلي "حماس" في جنوب غزة، بل يمكن لتلك الفلول أن تتلاشى. ومن تحت الأنقاض، ربما تبدأ المحادثات حول حل الدولتين، بدعم من أميركا وحلفائها في الخليج. بيد أن ثمة أيضا احتمالا آخر بأن تفشل محادثات وقف إطلاق النار، ما يترك إسرائيل حبيسة المسار الأكثر قتامة على امتداد وجودها طوال 75 عاما اتسمت باحتلال لا نهاية له وعزلة وسياسات يمينية متشددة. اليوم يعيش كثير من الإسرائيليين حالة إنكار لهذه الحقيقة، ولكن تصفية الحساب السياسي ستأتي في النهاية. وهي لن تحدد مصير الفلسطينيين فحسب، بل ستحدد ما إذا كانت إسرائيل ستزدهر في السنوات الخمس والسبعين المقبلة أيضا.
إذا كنت صديقا لإسرائيل، فهي تمر بلحظة غير مريحة على الإطلاق. في أكتوبر/تشرين الأول، شنت إسرائيل حربا مبررة للدفاع عن نفسها ضد "حماس"، التي ارتكب إرهابيوها أعمالا وحشية تهدد الفكرة القائلة بأن إسرائيل هي أرض آمنة لليهود. واليوم دمرت إسرائيل ما يقرب من نصف قوات "حماس". لكن مهمتها فشلت بعدة طرق بالغة الأهمية.
بداية، في غزة، حيث أدى إحجامها عن تقديم المساعدات أو توزيعها إلى كارثة إنسانية كان من الممكن تفاديها، ذلك أن الخسائر المدنية الناجمة عن الحرب تجاوزت الثلاثين ألف قتيل وهي في تزايد مستمر. كما رفضت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتشددة خططا لإدارة قطاع غزة بعد الحرب سواء من قبل السلطة الفلسطينية أو من قبل قوة دولية ما. والنتيجة المرجحة هي إعادة الاحتلال العسكري. يمكن لإسرائيل أن تفرض سيطرتها الدائمة على نحو أربعة إلى خمسة ملايين فلسطيني، إذا أضفت الضفة الغربية.
وفشلت إسرائيل في الداخل أيضا. فالمشكلات أعمق من قيادة نتنياهو الفظيعة. وقد أدت حركة الاستيطان المتنامية والسكان الأرثوذكس المتطرفين إلى الميل بالسياسة نحو اليمين ونحو مجتمع مستقطَب. قبل 7 أكتوبر، ظهر هذا بوضوح في الصراع على استقلال القضاء. زادت الحرب من المخاطر، وعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية المتشددة في الائتلاف كانت قد استبعدت من حكومة الحرب، فإنها عرضت مصالح إسرائيل الوطنية للخطر من خلال استخدام الخطاب التحريضي، وإثارة عنف المستوطنين ومحاولة تخريب المساعدة والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب. إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قادرة وواقعية، لكنها لم تعد تتولى زمام الأمور بشكل كامل.
أما فشل إسرائيل الأخير فكان في الدبلوماسية الخرقاء. إن الغضب من هذه الحرب أمر حتمي، وخاصة في الجنوب العالمي، لكن أداء إسرائيل كان سيئا في مواجهته. إن ما تنشره "Lawfare" يلحق الضرر بسمعة إسرائيل، بما في ذلك ادعاءات الإبادة الجماعية الزائفة. يتعاطف الشباب الأميركيون معها بشكل أقل مما يفعل آباؤهم. وقد حاول الرئيس جو بايدن كبح جماح حكومة نتنياهو من خلال احتضانها علنا، لكن محاولاته تلك تعرضت للفشل. وفي 14 مارس/آذار، كان تشاك شومر، وهو أكبر حليف لإسرائيل في مجلس الشيوخ، قد شجب فظائع "حماس" لكنه قال إن زعيم إسرائيل "ضائع".
الصورة قاتمة، ولا يُعترف بها في القدس أو في تل أبيب دائما. فنتنياهو يتحدث عن غزو رفح، آخر معقل لـ"حماس"، في حين يتخيل اليمين المتشدد إعادة الاستيطان في غزة. كما يخدع كثير من الإسرائيليين من التيار السائد أنفسهم أيضا. فهم يعتقدون أن التهديدات غير المسبوقة لإسرائيل تبرر قسوتها وأن الحرب ساعدت في استعادة الردع. لكن غزة أظهرت أنك إذا قتلت إسرائيليين، فسوف يلوح الدمار في الأفق. ويرى كثيرون أنه لا يوجد شريك حقيقي للسلام، فالسلطة الفلسطينية فاسدة وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 93 في المئة من الفلسطينيين ينكرون وقوع الفظائع التي ارتكبتها "حماس"، ويخلصون إلى أن الاحتلال هو الخيار الأقل سوءا. يفضل الإسرائيليون أن يتمتعوا بشعبية في الخارج، لكن الإدانة ومعاداة السامية هي ثمن بسيط يدفعونه مقابل الأمن. أميركا كانت غاضبة من قبل. لكن العلاقة ليست على وشك التمزق. في حال عاد دونالد ترمب، فقد يمنح إسرائيل تصريحا مجانيا مرة أخرى.