وقفت المرأتان على شرفة الفندق، رذاذ المطر خفيف يضرب جسديهما، والسماء في الأفق البعيد تتبدّى متكاثفة الغيوم تنذر بهطول غزير للأمطار. ظلتا صامتتين تحدقان في سفح الفندق، فهما تطلان من دوره الخامس، الشارع فائر بالناس والضجيج والازدحام. أصوات الموسيقى الأفريقية تطغى في عنفوان على الأشياء، والأجساد في الشارع تبدو متمايلة راقصة حتى وهي تعبر عجلى. فجأة بكت إحداهما، بنشيج خفيض، وارتجاج فالت لجسدها النحيل. انتبهت الأخرى لبكائها المباغت وبدت مندهشة. التفتت إليها الباكية وقالت: كيف أعيش مع هؤلاء الناس؟
أشارت بيدها إلى الشارع الضاج بالحركة والموسيقى والأجساد الراقصة، والعبور المذهل لـ"البودا بودا"، أو الدراجات النارية، المستخدمة هنا وسيلة للمواصلات.
تلك كانت ليلتها الأولى في كمبالا، هي وزوجها وطفلاهما الصغيران، تلك كانت غربتها الأولى في بلد أفريقي لم تكن تدري عنه شيئا، وتلك كانت رحلتها الأولى في عالم الآخر الذي – بلا شك – كانت تراه بعيدا، مخفيا، مدسوسا في الأساطير والأوهام، ولا يمت إليها هي بالذات بأي صلة. وتلك كانت مدينة كمبالا، قبلة السودانيين الفارين من حرب الجنرالين القاتلة.
النشيد الوطني
في الماضي البعيد، المتداخل ما بين الطفولة وبداية الشباب، كنت أتعامل مع النشيد الوطني لبلادي بشيء من القدسية والتبجيل، متماهيا بقدرٍ ما مع الصورة المستلفة من مشاهدات مباريات كرة القدم، والوقت الصباحي الإلزامي لتحية العلم ورفع العقيرة غناء وترديدا لمقاطع النشيد. تلك الحالة من الانفصال اللحظي والاستغراق التام التي يبديها لاعبو كرة القدم أثناء تأدية الأناشيد الوطنية، ما قبل المباراة، زرعت بشكل ما في داخلي وداخل كثيرين إحساسا فخورا بهذا النشيد وكلماته ولحنه، وربطه بطريقة أو بأخرى بالانتصار وبسمو البلد ورفعته، أما نشيد المدارس الصباحي الإلزامي، فكان بالنسبة إلي وكأنه رشفة صباحية منعشة لـ"معنى الوطن".