في يومه العالمي... جذور فنّ المسرح وأبرز اتجاهاته عربيا وعالمياhttps://www.majalla.com/node/313671/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D9%81%D9%86%D9%91-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D9%88%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%A7%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7
في يومه العالمي... جذور فنّ المسرح وأبرز اتجاهاته عربيا وعالميا
لا يزال الوسيلة الإبداعية الفضلى للتقريب بين الناس والأفكار
AFP
الأوبرا الوطنية اليونانية تقدم عرضها في مسرح هيرودوس أتيكوس القديم عند سفح الأكروبوليس، خلال حفل موسيقي يضم مجموعة من الأوبرا الشهيرة في أثينا، 28 يوليو 2020
في يومه العالمي... جذور فنّ المسرح وأبرز اتجاهاته عربيا وعالميا
أراد كارميلو بيني، أحد عمالقة المسرح الإيطالي المعاصر، أن يشارك في جنازته، مواكبا الآخرين، باكيا ونادبا. تراجيديا بطعم آخر، البطل يشارك ذويه وأصدقاءه في مأتمه ويضع الزهور على قبره، ليقول بطريقته الخاصة: المسرح حياة، والحياة ليست إلا خشبة مسرح، كل واحد منّا يؤدي دوره حتى دون أن يعي ذلك.
كان قدماء اليونان أول من نقلوا شؤون الحياة ومتاعبها بمجموعات من الممثلين ينوبون عن المتلقين في الأداء واستخلاص العبر، معلنين بذلك ولادة "التراجيديا" أو المأساة. لم يستغرق الأمر طويلا ليكتشفوا أن للتراجيديا جانبا آخر لا يقل أهمية عن الأول، نابعا من رحم المفارقة، أي الكوميديا، التي نشأت من طقوس تكريمية لديونيسيوس، ولكن كان للغناء فيها سمة مرتبطة بالسخرية. هذا الشكل من التمثيل نشأ على أيدي فنانين ينحدرون من الشعب وكانوا في حاجة إلى التحدث إلى العامة، كإجابة صريحة على سلطة يهيمن عليها الأريستوقراطيون والحكام وكهنة المعابد. أخذ هؤلاء يقدمون عروضهم في الأماكن التي يتوافد إليها الناس لأسباب متفرقة، كالساحات والأسواق والحدائق العامة، وكان لديهم جمهور متحمِّس، إذ كانوا يصلون إلى المسارح المرتجلة في ساعات الصباح الباكر للاستمتاع بالعروض التي تُقدَّم طوال النهار.
كان الممثلون، أثناء تقديمهم العروض، يرتدون في الغالب جلود الماعز، إذ كانت الجائزة لأفضل أداء هي جدي صغير. في المأساة، كانت الأحداث تدور حول شخصيات بارزة و/أو ميثولوجية وتنتهي بكارثة. وقد تنوّعت المواضيع المطروحة، وكان الهدف الرئيس خلالها هو تعزيز احترام المؤسسات والقانون والدين. كان عدد الممثلين يبلغ غالبا ثلاثة أفراد، يستخدمون أقنعة لتجسيد شخصيات متعددة. وقد برزت المأساة الإغريقية في أبهى صورها من خلال أعمال ثلاثة من أبرز الكتّاب:إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، أما في مجال الكوميديا الإغريقية، فكان أبرز ممثل هو أرستوفان، الذي اشتهر بالسخرية والنقد اللاذع لحكام أثينا، ومن شخصيات بارزة كسقراط.
لطالما هدف المسرح إلى التقريب بين الناس، وتعزيز انتمائهم وتبادل أفكارهم مع الآخرين
لطالما هدف المسرح إلى التقريب بين الناس، وتعزيز انتمائهم وتبادل أفكارهم مع الآخرين. إلا أنه خضع للتغير كسواه من المظاهر الدنيوية، مما يدفعنا دائما إلى استكشاف اتجاهاته الجديدة ومتابعتها، كما فعلت الباحثة الإيطالية إيفا كانتاريللا في كتابها الأخير المثير للجدال بعنوان "ضد أنتيغون والأنانية الاجتماعية". فعبر قراءة تاريخية غير أسطورية، مثل تلك التي قامت بها المؤلفة، ندرك أن أنتيغون ليست في الضرورة بطلة تحررية أو ضحية، ولا تقاتل من أجل عدالة أسمى. بل هي ضد القانون، لأنها انتهكت عمدا قوانين أثينا. فقد قوضت بمبادرتها الفردية مبدأ التنظيم الذي تقوم عليه حياة المجتمع، بعكس الملك كريون، الذي تعدّه المؤلفة البطل الحقيقي للتراجيديا التي كتبها سوفوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد، لأنه كان يعمل ضمن إطار القانون.
تدعو المؤلفة، اتساقا مع مفاهيم عصرنا، إلى تمييز شخصية أنتيغون عن أنتيغون الأسطورية، وتطرح قضية من أهم القضايا في تاريخ الإنسان، ألا وهي: أين ينتهي حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟ أو في عبارة أخرى: عند أية نقطة يكون عصيان القوة المهيمنة، أمرا لا مفر منه حتى إن كان العقاب عليه الدفن حيا في قبر صخري؟ مثلما حصل مع أنتيغون التي ماتت شهيدة الدفاع عن القانون الديني الذي يقرّه الشعب والذي يأمر بدفن الموتى، فتحدّت بذلك الملك كريون الذي سن قانونا مغايرا، يمنع دفن أخيها لأنه يمثل الشرّ ويهدد كل من يتحدى قانونه ذاك بالموت.
لماذا المسرح؟
لكن ما لا يتغير هو احتياجاتنا. إذن، لماذا المسرح؟ هذا السؤال هو عنوان كتاب ميلو راو، مدير مهرجان فيينا للمسرح، الذي طرحه على مجموعة واسعة من الفنانين والمثقفين المختلفين في اتجاهاتهم وأصولهم الجغرافية وخبراتهم. هذا الثراء يصوِّر تنوع المسارات الفنية التي لا يمكن تصنيفها تحت تعريف واحد للمسرح، بل على العكس من ذلك، يستمد طاقته من توسّع حدوده ومرونته، وقربه الكبير من الممارسات والموضوعات المختلفة. يمكن قول الشيء نفسه عن الموسيقى، والفن المعاصر والعالم الرقمي. لذلك، من السهل أن يشعر إنساننا المعاصر بالضياع أمام آفاق دائمة التغير تستدعي توسع أدوات التحليل وتفرض على الفنانين أنفسهم، والنقاد، والمؤسسات والمنظمات والجمهور، دافعا موجبا نحو التغيير.
من جانب آخر، يتضح أن للمسرح وظائف عدة بالإضافة إلى دوره الأساس في التطهير، استنادا إلى تصوُّر المبتكرين الإغريق. تتعدّد هذه الوظائف حسب الغاية المطلوبة من كل عمل مسرحي، فمنها الغاية الترفيهية التي تعزز استمتاع الأفراد بأوقات فراغهم من خلال حضور المسرحيات، وكذلك الغاية الدعائية التي تثير اهتمام المجتمع بأفكار معينة أو قِيَم خاصة. بالإضافة إلى ذلك، تبرز الغاية الجمالية للمسرح كونه فنا يشجع على تجارب جمالية مثيرة، وتظل هذه الغاية أساسية في سبر أسرار كل نوع من أنواع الفن. ولا يُغفَل دور المسرح كوسيلة تعليمية وتثقيفية تستخدم لتبسيط بعض المفاهيم العلمية والأدبية، فضلا عن دوره في تقديم قضايا اجتماعية مختلفة للاستشارة والتأمل. عندما نضيف إلى هذه العناصر تأثير كوارث كبرى، مثل جائحة كوفيد-19، والحروب، والأزمة المناخية، والانقسامات الهوياتية، والنزاعات وعدم المساواة الاقتصادية على نطاق عالمي، يمكننا فهم كيف يشعر عالم الإبداع بتشتت شديد. لكن، بفضل قدرة الفنانين على "تمثيل واقعهم" وحساسيتهم تجاه التغيرات، فإن هذا التحول يغدو حافزا للبحث عن آفاق جديدة للإنسانية.
روما والعصور الوسطى
لم يصل المسرح في العصور القديمة في روما إلى تلك المستويات الفنية والثقافية التي كانت موجودة في المسرح اليوناني. فالمسرح، بالنسبة إلى الرومان، كان يمثّل بشكل أساسي مكانا للاجتماع والترفيه، حيث يُظهرون حالتهم الاجتماعية. ولم تحظَ المأساة والكوميديا بتقدير كبير أو نجاح، بل استُبدِلَت سريعا ببعض المشاهد الكوميدية، والأشخاص الذين يُقدِّمون عروضا إيمائية وبهلوانية.
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، مرّ فن المسرح بفترة عصيبة ومظلمة، إذ حرّمت الكنيسة عروض الوثنيين "الفاسقة"، مستبعدة التمثيل من المجتمع المسيحي وحارمة كل ممثل من سرّ القربان المقدس. إلا أن حاجة التمثيل ساهمت في ظهور شكل خاص من التعبير المسرحي داخل الكنيسة نفسها، تجلّت في الشعائر الدينية.
حرّمت الكنيسة عروض الوثنيين "الفاسقة"، مستبعدة التمثيل من المجتمع المسيحي وحارمة كل ممثل من سرّ القربان المقدس
أما في العصور الوسطى، فكانت الدراما تعبّر عن ذاتها من خلال العروض الدينية التي تقدّم مقاطع من العهدين القديم والجديد، دون إغفال العروض الهزلية والترفيهية، سواء في الميادين أو القصور. كانت شخصية الممثل البارز تجسّد في صورة "الصعلوك"، إذ لم تكن مباني المسارح قائمة بعد. وبفضل فكاهته وسخريته، وأيضا لأنه كان مشرّدا بلا مأوى ويلجأ إلى حركات مشينة خلال التمثيل، كان يُستهجَن باستمرار ويُشار إليه بازدراء من جانب الكنيسة، وهو ما دحضه الإيطالي داريو فو، الحائز جائزة نوبل، من خلال أعمال مسرحية باللغة الدارجة، فكان يصف نفسه بأنه ليس سوى صعلوك من العصور الوسطى.
في الفترة ما بين منتصف القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، تطورت العروض الكوميدية التي تتبع هذا الاتجاه، وباتت تكمن خصوصيتها في الأداء حسب الموضوع، إذ لا يقوم الممثلون بأداء كوميديا معدّة مسبقا، ولكنهم يستخدمون حبكات تسمى "كانوفاتشي" (Canovacci). يشار بهذا المصطلح إلى التقاليد المسرحية، ذات الطابع الإيطالي البحت، التي تستند إلى فنّ الارتجال واستخدام الأقنعة، والتي تعتمد على تقديم حبكة قصصية لإحدى المسرحيات أو الأعمال الأدبية دون استخدام نبرات ساخرة أو طريفة، بل تعرض فقط حبكة الأحداث، مثل "مشاهد غرامية" أو "جدال ونزال" بين عاشقين متنافسين. على هذا الأساس، يقوم الممثلون بتأدية أدوارهم بشكل عفوي، وفقا لطلبات الجمهور، في حوارات ونكات ومزاح، ويظهرون كل إبداعهم كراقصين وبهلوانيين ومغنين.
في هذا النمط المسرحي، يقوم كل قناع بأداء دور أساسي: على سبيل المثل، يجسد بانتالوني شخصية "العجوز المتبرّم الضجر"، أما أرليكّينو فيقدم دور "الخادم الذكي"، وتؤدّي كولومبينا شخصية "الخادمة النبيهة المرحة". أحد التطورات التي ظهرت مع "كوميديا الفن"، تقديم نساء في أدوار مسرحية. كانت النساء غالبا جميلات وأنيقات، يظهرن في ثياب فاخرة موشاة بالحلى والزخارف. وقد أثار هذا استهجانَ الكنيسة لأنَّ أداء النساء هذا يغيّر، من وجهة نظرها، صورة المرأة النقية الطاهرة، التي تُعْتَبَر ركيزة من ركائزِ عقيدة المسيحية حول الأسرة والمجتمع.
وكوميديا الفن هي ظاهرة إيطالية نموذجية، ولكن سرعان ما صدّرها الممثلون الإيطاليون إلى بلدان مجاورة مثل فرنسا وألمانيا، حيث أحدثت تأثيرا على كتاب الدراما كشكسبير وموليير، ثم على المسرحي كارلو غولدوني بشكلٍ خاص. هذا الأخير، من خلال جهوده في إصلاح المسرح، سيلغي تدريجيا استخدام الأقنعة وسيلغي فكرة الارتجال لصالح استخدام نص مكتوب مسبقا.
المسرح الحديث
في عصر النهضة، الذي شهد تحولا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، أدخلت أبعاد جديدة في المجال المسرحي. بجانب المسرحيات التي تتسم بالتعقيد والثقافة، بدأ المسرح الشعبي الذي كان يسلِّي الناس كثيرا دون وجود نص مكتوب، يظهر تطورا. نحو القرن السابع عشر، اختفت فترة "كوميديا الفن"، حتى أعادها إلى الواجهة المؤلف المسرحي والكاتب ومؤلف الأغاني، المحامي الإيطالي كارلو غولدوني، بهدف حفظ شخصيات بارزة، مثل أرليكّينو وكولومبينا وبالانزون.
في القرن السابع عشر، شهدت أوروبا تطورات بارزة، تمثلت في ظهور فلسفة متأصلة في التراث الكلاسيكي، وبروز كتّاب مسرحيين مهمين، مثل بيار كورناي وجان راسين. وفلسفة مرتبطة بالتعمق في المواضيع التاريخية، مثل تلك التي قدمها كريستوفر مارلو ووليام شكسبير، أول من عَوْلَم المسرح بشخوصه التي تنتمي إلى أمم وأعراق مختلفة. كان المسرح النهضوي أيضا دراما رعوية، حيث كانت عناصره تتعلق بالهروب من الحقيقة، والتعلق بأوهام العالم المثالي.
كان المسرح في بداية القرن التاسع عشر مميزا بشغفه بالعروض الباذخة والضخمة، إذ اتسم بجمال إكسسواراته وأزيائه وديكوراته المصممة بدقة. ونحو منتصف القرن، ظهر على خشبة المسرح الأوروبية ثلاثة كتّاب مسرحيين كبار: النروجي هنريك إبسن، والروسي أنطون تشيخوف، والسويدي أوغست ستريندبرغ، الذين مهّدوا لطرق جديدة في المسرح تُعرَف باسم الدراما الواقعية التي تحلّل الواقع بدقة في جوانبه المختلفة، بدءا من تلك التصادمية وصولا إلى العنف المؤثر.
وتتمثّل السمة الرئيسة لبدايات القرن العشرين في ظهور تجارب جديدة في المجال المسرحي، تستجلي عمق المواضيع التي قد تكشف عن العلاقة بين الفرد وتأثيراته التي يفرضها المجتمع.. كانت أعمال الكاتب والشاعر الإيطالي، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1934، لويجي بيرانديلو، هي التي أبرزت هذا الجانب بشكل كبير.
مهّد هنريك إبسن وأنطون تشيخوف وأوغست ستريندبرغ، طرقا جديدة في المسرح تُعرَف باسم الدراما الواقعية
كانت تقنية التمثيل المسرحية في ذلك الوقت متأثرة بشكل كبير بأساليب المخرج والممثل الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي، التي لا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، والتي تعتمد على التحليل النفسي للشخصية والبحث عن التشابهات بين عوالمها الداخلية وعوامل المؤثرات في شخصية الممثل من خلال التعبير عن المشاعر الداخلية وإعادة صياغتها على المستوى الشخصي. في الستينات، ظهرت أول أشكال المسرح التجريبي، وهي تسمية مطبقة على ظواهر السلوك والآراء الفكرية، خصوصا في المجال الفني والأدبي.
أنثروبولوجيا المسرح
يميل تخصص تاريخ المسرح، الذي نشأ وتطور في أوروبا، إلى تقييد مجال الدراسة للأشكال المسرحية الغربية وتؤسس أصولها في المسرح الكلاسيكي في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، موسعة الرؤية إلى منظور عالمي فقط من خلال المسرح المعاصر.
ومع ذلك، يُولى اهتمام كبير، خاصة في الأعمال الأحدث، بالتقاليد المسرحية في أفريقيا وآسيا. وبشكل خاص، يعود اهتمام الفنانين والأكاديميين الأوروبيين والأميركيين بشكل كبير إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد ساهم ذلك بلا شك في تطور أشكال المسرح الغربية ونشوء أنثروبولوجيا المسرح.
تجدر الإشارة إلى أن ميلاد الفن المسرحي في قارات مختلفة يرتبط بشكل عميق بالطقوس الدينية التي تستمد منها لحظات التآزر بين الأفراد والطقوس الاحتفالية: سمح تطور المسرح الغربي بالابتعاد عن الأدب المسرحي ذي المضمون الديني، مع الاحتفاظ بعناصره المميزة فقط. من خلال ميلاد التخصصات المسرحية الحديثة والدراسات في هذا المجال، أمكن تعرف الشعائر في الممارسات المسرحية، مما يمكّن من المقارنة بين التقاليد المسرحية المختلفة حول العالم ضمن علم اجتماع المسرح، الذي يؤرخ أيضا لقرن ونصف القرن من المسرح العربي الذي شهد مراحل تختلف من بلد عربي إلى آخر، وتحديات لا تزال تعرقل مسيرته. كانت البداية في عهد الحملة الاستعمارية لنابليون بونابرت على مصر وبعض أجزاء بلاد الشام، حيث أقيم أول مسرح في القاهرة. إلا أن البداية الحقيقية كانت مع الأديب اللبناني مارون النقاش في عام 1847، الذي كان مغتربا في إيطاليا حيث سنحت له الفرصة للاطلاع على ثقافتها عن قرب، وبالتالي ترجم بعض الأعمال المسرحية إلى العربية، مثل مسرحية "البخيل" لموليير، وتولى بنفسه إخراجها والتمثيل فيها.
المسرح العربي
على الرغم من تأخر نشأة المسرح العربي بسبب عوامل عدة، دينية واجتماعية وفنية، ظل المسرح العربي محطا لأنظار الأدباء والفنانين، واستمر في تطوره وجذبه لجمهور كان يجد فيه نفحة من الحرية، أو بالأحرى تواصلا مباشرا مع الكلمة ومع الذات التي تتمثل تجلياتها وجذورها التراثية في أشكال متعددة من الاحتفاليات الشعبية، كالحلقات الصوفية ومسرح الدمى وخيال الظل والحكواتي والقراقوز. ومن بين الرواد الذين ساهموا في تطوير المسرح العربي، الطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وعبد الكريم برشيد وتوفيق الحكيم وسعد الله ونوس وسهيل إدريس وممدوح عدوان وجواد الأسدي. تجاوز هؤلاء مرحلة الاقتباس وبدأوا يميلون إلى توظيف التراث في أعمالهم المسرحية أو معالجة موضوعات مستمدة من البيئة المحلية، بتقنيات مختلفة، منها الاحتفالي، كما في مسرحيات عبد الكريم برشيد والطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج، والمسرح الذهني الغالب في أعمال توفيق الحكيم، والفردي الذي يقوم على أداء شخص واحد لمجموعة من الأدوار، المتمثل في أعمال عبد الحق الزروالي، والمسرح الإيمائي والتجريبي. وأخيرا مسرح العبث أو اللا معقول، الذي نشأ على يد الإيرلندي صموئيل بيكيت متأثرا بفلسفة العبث التي طرحها ألبر كامو من خلال روايته "أسطورة سيزيف"، كتعبير عن مأزق الفرد وانفصام الروابط الإنسانية. وقد تأثر الكتّاب العرب بهذا التيار وبدأوا يكتبون نصوصا تحاكي هذا النوع الجديد من المسرح، مثل مسرحية "يا طالع الشجرة" لتوفيق الحكيم، والكوميديا السوداء "مسافر ليل" لصلاح عبد الصبور.
ظل المسرح العربي محطا لأنظار الأدباء والفنانين، واستمر في تطوره وجذبه لجمهور كان يجد فيه نفحة من الحرية
تميزت هذه البداية بمراحل متعددة منذ عام 1847 حتى 1917، منها محاولات النقاش منذ عام 1848، حين اقتبس مسرحية "البخيل" لموليير وقدمها على المسرح، ومرحلة الترجمات، حيث نقل شبلي الملاط مسرحية "الذخيرة" عن الفرنسية، وترجم أديب إسحق مسرحية "أندروماك" لراسين. ثم مرحلة بعث التأريخ الوطني العربي التي كتب خلالها نجيب حداد مسرحية "حمدان" المستوحاة من حياة عبد الرحمن الداخل، ومرحلة الواقعية الاجتماعية، وتمثلت في كتابات جبران خليل جبران الذي كتب مسرحية "إرم ذات العماد" ومسرحية "الآباء والبنون" التي كتبها ميخائيل نعيمة سنة 1917. وهذه المرحلة دخلت لبنان من طريق حركة أُدباء المهجر في أميركا.
أما في سوريا، فقد كان في دمشق وباقي المدن والنواحي قبل الانتداب وحتى ستينات القرن الماضي، مقاهي الحكواتي، وأخرى للقراقوز وللمصارعة، وللسيف والترس. بعد وفاة مارون النقاش سنة 1875، شكّل زميله أديب إسحق فرقة مسرحية وسافر بها إلى مصر وقدم عروضا عدة على مسارح الإسكندرية، مثل "أندروماك" لراسين وأوبرا "عايدة" التي ترجمها سليم النقاش عن الإيطالية.
أما يعقوب صنّوع، فقد بدأ قبلهما سنة 1870، وأقام دعائم المسرح العربي في وقت مبكر، وسبق به الفرق اللبنانية والسورية، التي جاءت الى مصر لبداية مغامرة محفوفة بالمفاجآت. وقد ساعد في عمله هذا إتقانه لغات عدة، إضافة إلى أنه كان شاعرا وصحافيا. لكن ما طور موهبته التمثيلية ارتياده العديد من المسارح التي كانت تزخر بها القاهرة والتي استضافت العديد من الفرق الأجنبية الكبيرة وقدمت على مسارحها أشهر الأعمال المسرحية.
وفي الوقت نفسه، سنة 1878، كان الشيخ أحمد أبو خليل القباني (1833-1903)، يمارس نشاطه المسرحي مع زميله الممثل إسكندر فرح (1851-1916). كان الاثنان قد شكّلا فرقة مسرحية قدمت العديد من المسرحيات، منها مسرحية "عائدة"، وبمرور الزمن استطاعا استقطاب اهتمام العامة والمثقفين. مع ازدهار المسرح، تنامى اعتراض بعض رجال الدين، مما دعا أبا خليل القباني إلى مغادرة الشام في اتجاه مصر بصحبة زميله إسكندر فرح، ليشتغلا في الإسكندرية، ويقدما على مسرح الأوبرا مسرحية "الحاكم بأمر الله" عام 1884، في حضور الخديوي توفيق. واستمرا بالعمل على مسارح القاهرة كذلك حتى العام 1900، رجعا بعدها إلى دمشق وأعادا بناء مسرح أبي خليل القباني الذي باشر عمله وحاز نجاحا باهرا، نظرا الى مواهب القباني التي لم تقتصر على التمثيل فحسب، بل تعدت ذلك إلى الموسيقى والتلحين والتأليف. واستمر يعمل حتى وفاته عام 1903.
أخيرا، لا بد من التنويه، بأن المثقفين في بعض الدول الأوروبية، من ضمنها إيطاليا، ينادون بضرورة تضمين تعليم المسرح في المدارس ابتداء من المرحلة الإلزامية، فتعدد آراء النقاد الصغار، فرصة للاستزادة من العلم وثروة لثقافة الأمم. وهي مسألة معقدة بالنسبة إلى البلاد العربية، نظرا لتشابكها مع جوانب اجتماعية واقتصادية، وسياسية بالطبع. والأمر المؤكد، أن المسرح هو حقا مستقبل التواصل، وأنه من دون جمهور لن يكون هنالك مسرح.