لن توقف إسرائيل النار في غزة ولن تستجيب للدعوات التي تضمنها القرار 2728 بامتثال جميع الأطراف الى التزاماتها وفق القانون الدولي. بل إن حكومة بنيامين نتنياهو اتخذت "إجراءات عقابية" ضد الولايات المتحدة التي امتنعت عن التصويت، وخفضت مستوى المفاوضين من جهاز "الموساد" الموجودين في العاصمة القطرية الذين يتابعون ملف الرهائن. لكن الخلفية التي املت الموقف الاميركي قد تكون اهم من القرار ذاته.
الموقف الإسرائيلي المعترض على القرار، قابله ترحيب فلسطيني من "حماس" ومن السلطة. في حين أظهر عدد من المراقبين خيبة الأمل من عدم احتواء القرار على آلية ملزمة لوقف القتال أو على حماية المدنيين الفلسطينيين.
بيد أن معنى القرار قد يجد تفسيره في مكان غير متوقع، هو المقابلة التي أجراها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والتي دعا الإسرائيليين فيها إلى "إنهاء الحرب" والانتباه إلى أنهم "يخسرون الكثير في العالم".
موقف ترمب المعروف بتأييده الكبير لإسرائيل واعترافه بضمها لهضبة الجولان السورية المحتلة وبنقله السفارة الأميركية إلى القدس، بدا نافرا في جوقة الأصوات الأميركية المفرطة في دعمها لإسرائيل وتحديها لكل الاعتراضات على الوحشية الإسرائيلية في غزة وانفلات المستوطنين في الضفة الغربية.
الجمهور الشاب في أميركا لن يوافق بعد الآن على الدعم الأعمى لإسرائيل من أي جهة أتى
التأمل في اللقاء غير المتوقع بين إدارة جو بايدن الديمقراطية ومرشح اليمين الشعبوي إلى الانتخابات الرئاسية دونالد ترمب، في مطالبتهما بوقف القتال في غزة (وإن على نحو غير مباشر من قبل بايدن من خلال الامتناع عن التصويت بنقض مشروع القرار)، يقول إن بايدن وترمب أدركا الأثر الهائل الذي تتركه الحرب على الجمهور الأميركي والذي ستكون له انعكاسات واضحة على مسار الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ومعلوم ان المواقف التي يلتقي عليها بايدن وترمب اقل من اصابع اليد الواحدة.
ما جرى في الانتخابات الأولية للمرشح الديمقراطي في ولاية ميتشغان حيث صوّت أكثر من مئة ألف ناخب ديمقراطي "بعدم تفويض" بايدن، بعث إشارة قوية إلى أن الولاية التي تعد من الولايات المتقلبة (سوينغ ستايت) قد تنتقل إلى المعسكر الجمهوري وتلحق، بالتالي، ضررا بالغا بفرص بايدن في تجديد ولايته.
من ناحية ثانية، يعلن رسوخ الانقسام الجيلي بين الأميركيين حول القضية الفلسطينية التي يساند مطالب الفلسطينيين فيها جزء كبير من الناخبين الشبان فيما يتمسك كبار السن بموقفهم الموالي تقليديا لإسرائيل، يعلن أن الجمهور الشاب لن يوافق بعد الآن على الدعم الأعمى لإسرائيل من أي جهة أتى. وعليه، سيضطر الديمقراطيون والجمهوريون، إلى تعديل مواقفهما لتأخذ في الاعتبار الانقسام الجيلي المذكور. الأمر قد لا يكون مرغوبا بين أعضاء النخبة السياسية الأميركية، الديمقراطية والجمهورية، لكن النخبة هذه تتسم بعادة تغيير المواقف والآراء تبعا لنتائج استطلاعات الرأي.
من هنا لم يكن التزامن بين موقف المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة (والتي تمثل في نهاية المطاف الإدارة الديمقراطية) وتصريح ترمب الصادم للإسرائيليين، لم يكن صدفة، بل جاء ليعكس التشابه في حسابات القوى السياسية الأميركية التي تنظر إلى الخارج بعين الداخل. فتقيّم الصراع في غزة بميزان المعطى الانتخابي الذي يشير إلى تغيير كبير في الموقف من إسرائيل.
نحن اليوم شهود على اتساع رقعة التغييرات التي تشهدها المجتمعات الغربية والتي يتسم بعضها بالتعقيد
التغيير هذا يعود إلى عناصر عدة، منها تزايد أعداد المهاجرين من أصول عربية ومسلمة في الولايات المتحدة واندراجهم في الأطر السياسية الأميركية، يمينا ويسارا، من ناحية. ونهوض ثقافة الاعتراض الشبابي (مرة جديدة) على الممارسات السياسية الموروثة ومنها التأييد الدائم لإسرائيل التي نزعت الثقافة هذه عنها رداء المظلومية والضعف في مواجهة "غولياث" العملاق العربي، وأعادت الأمور إلى نصابها إلى حد ما بالاعتراف بحق الفلسطينيين في العيش، قبل حقهم في تقرير المصير وبناء الدولة وما شاكل.
لذا، نحن اليوم شهود على اتساع رقعة التغييرات التي تشهدها المجتمعات الغربية والتي يتسم بعضها بأوجه معقدة ومركبة، لكن آثارها السياسية آخذة في الظهور، من دون السقوط في وهم أن التغييرات هذه ستكون كلها إيجابية.