على الرغم من اعتراف تنظيم "داعش"، فرع خراسان، بمسؤوليته عن الهجوم الدموي الذي وقع على المجمّع التجاري "كوركوس" في موسكو وقتلِ المدنيين قتلا منظما، إلا أن الرئيس بوتن، الذي يبدو أنه قانع بأن الإسلاميين مجرد مرتزقة و"سلاح للتأجير"، افترض وجود طرف ثالث مشارك في العملية، ولأسباب سياسية واضحة جعل أوكرانيا المنكوبة هي هذا الطرف المسؤول ووعد بتدمير الجيش الأوكراني برمته ومن يقف معه في عملية انتقام موعودة. هناك شك في قدرته على تنفيذ ذلك، إذ لو كان قادرا على تدمير الجيش الأوكراني، فما الذي كان يفعله خلال السنتين الماضيتين؟ يمازحه مثلا؟
لا يمكن لبوتن أن يتهم الإدارة الأميركية بوقوفها وراء العملية، فقد حذره الأميركيون علانية من احتمال وقوع مثل هذه العملية، فلم يبق أمامه إلا أوكرانيا التي يستبعد كثيرا أن تستفز الروس بارتكاب مثل هذه الحماقة الكبرى التي لن تجني من ورائها إلا انتقاما روسيا سيكلفها الكثير على أية حال. لا بد أنه سيرد ردا قاسيا ولو من باب حفظ ماء الوجه، مع أن الرئيس بوتن لم يقدّم دليلا ملموسا مقنعا واحدا يثبت مسؤولية الأوكرانيين عن العملية الإرهابية، مجرد توجيه سياسي للتهمة، لا أكثر، وهو هنا – بلغة الفلسفة – يصنع بعقله الحدث بدلا من تصوره تصورا صحيحا.
التصور الأقرب إلى الصحة هو أنه لا علاقة لأوكرانيا ولا أوروبا ولا أميركا بما حدث. وإذا كان لا بد من رمي التهمة بالمسؤولية، فالمسؤولون هم الروس أنفسهم، خصوصا بعد الهجوم الإرهابي المروع على مسرح موسكو في عام 2002، الذي يُفترض ألا تترك بعده قاعة "كروكوس" من دون حراسة. المهملون هم المسؤولون الروس وهم من يُفترض أن يعاقبوا بسبب هذا الإهمال الذي ترك حياة المدنيين عرضة للخطر.
هؤلاء الإرهابيون لديهم تاريخ من العداء مع روسيا لا يقل عمقا عن العداء مع أميركا
في تصوري أن هذه العملية لا يصح أن تُنسب إلا لمن نسبها إلى نفسه، تنظيم "داعش"، فرع خراسان. هؤلاء الإرهابيون لديهم تاريخ من العداء مع روسيا لا يقل عمقا عن العداء مع أميركا. هناك عداء قديم يمتد من أيام الغزو السوفياتي لأفغانستان، وقد تطور طموح هؤلاء الإرهابيين إلى محاولة إقامة دولة تهدد العالم بأسره. وسوف يستمرون في ارتكاب العمليات الإرهابية آملين أن انتصاراتهم المزعومة ستجلب لهم الأعداد الكبيرة من المسلمين المتطوعين المؤمنين بمشروعهم السياسي.
المشروع السياسي لهؤلاء الإرهابيين حقيقي وليسوا مجرد "سلاح للتأجير"، وطموحهم لن يقف عند أية حدود، وهم سبب كل الحروب في البوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفو، حين كانوا، تحت مسمى "العمل الإسلامي"، يتسللون إلى أماكن وجود الأقليات المسلمة في دول قائمة، ثم يشرعون في محاولة إقناع الناس بوجوب الثورة والحصول على الحكم الذاتي. هذا هو مشروعهم، وهم لا يعِدون العالم إلا بالدم. معادلة في غاية البساطة والوضوح.
تغذي ذلك كله، الحماقات التي ارتكبتها أميركا وحلفاؤها الأوروبيون في العراق وليبيا وسوريا، عندما شجعوا هذه الجماعات الإرهابية على القيام بعملها، إلى درجة أن النخب الفكرية الأميركية كانت ترفض أن تسمي من يحارب الروس إرهابيا لمجرد أنه ضد روسيا.
هناك فرق بين الموقف السياسي والموقف الأمني، فالسياسة لها شؤونها الخاصة ولغتها، لكن على صعيد الأمن يُفترض أن يتعاون العالم كله لحماية المدنيين من العدوان في كل مكان. هذا هو واجب الجميع، كما نصت معاهدة جنيف، حماية المدنيين في حال الحرب، وفي حال السلم من باب أولى.