لا تقتصر المشكلة على عدم توفر الكادر المطلوب. فالمدارس في المناطق التي تتحكم بإدارتها المحلية هيئات يمينية، على سبيل المثل، قد تقرر إدارتها استبعاد تدريس اللغة العربية من الخيارات المتاحة للتلاميذ. وحتى في حال عدم استبعاد إدارة المدرسة اللغة العربية لأسباب أيديولوجية ودينية، فإن عدد طلاب اللغة العربية الضئيل يلعب دورا في استبعادها. وتقول شهال: "حتى لو وجد مدرس للغة العربية، وحتى لو كانت إدارة المدرسة ترغب في إدراج اللغة العربية في صفوفها، فإن المشكلة التي قد تواجه الإدارة تتعلق بقلة عدد التلاميذ الذين يختارون دراسة اللغة العربية. والقلة هذه تحمل إدارة المدرسة على عدم فتح صف لهم".
طالبة في مدرسة تولوز الثانوية (16 سنة، تنحدر من أسرة مغاربية) قالت لـ "المجلة": "لم أكن أعلم أن اختيار دراسة اللغة العربية متاح في المدرسة. لذا اخترت اللغة الإسبانية عندما كنت في المرحلة المتوسطة. وفي مرحلة التعليم الثانوي علمت أنني أستطيع دراسة العربية عوضا من الاسبانية. وعندما باشرت التسجيل علمت أن عليّ أن أحضر صف اللغة العربية في مدرسة أخرى، تبعد كثيرا عن الحي الذي أقطنه. زيادة على ذلك وجب على والديّ دفع مبلغ من المال ليس بالقليل، من أجل حضوري في الصف. لذا تخليت عن الفكرة وتابعت تعلم الإسبانية".
أرقام وخيارات وجهات
تشير الأرقام الإحصائية إلى أن عدد تلامذة اللغة العربية في العام 1986 في فرنسا، لم يكن يتجاوز 13 ألف تلميذ. وفي العام 2000 تقلص العدد ليصل إلى 7 آلاف تلميذ فقط في عموم فرنسا. وارتفع العدد تدريجيا ليصل إلى نحو 14 ألف تلميذ في العام 2019. وذلك من إجمالي نحو 5.5 مليون تلميذ فرنسي. وهذا ما يشكل زيادة نسبية، مقارنة بعدد تلاميذ اللغة العربية في العام 2007، الذي وصل إلى نحو 6500 تلميذ، حسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
على الرغم من أن تعلم اللغة العربية في المدارس الرسمية الفرنسية هو الخيار الأفضل للتلامذة على المستويات كافة، لكن المعوقات التي أوردناها أعلاه، أدت إلى بروز المدارس والمعاهد الخاصة كملاذ أكثر استقطابا لتعليم اللغة العربية.
تأتي المساجد في فرنسا وسفارات الدول العربية فيها في مقدمة الجهات التي تقدم دروسا في اللغة العربية. وحسب تقرير صادر عن "المعهد الفرنسي للاندماج"، درس في العام 2015 نحو 75 ألف تلميذ اللغة العربية في الصفوف الخاصة التي تنظمها السفارات. لكن هؤلاء يظلون خارج الجسم التعليمي الفرنسي، أي خارج إشراف وزارة التربية.
معهد العالم العربي
يعد معهد العالم العربي أحد أهم مراكز تعليم اللغة العربية خارج إطار التبعية السياسية والأيديولوجية، وهو يركز بشكل خاص على تعليم العربية وما يرافقها من نشاطات ثقافية وفنية الطابع.
ويعد معهد العالم العربي في باريس، بإدارة جاك لانغ وزير الثقافة السابق، من أهم الجهات الفرنسية في تعليم اللغة العربية. وقد يكون الجهة الوحيدة المخولة منح شهادة في اللغة العربية معترفٍ بها فرنسيا ودوليا. وهي شهادة "سمة"، معترف بها رسميا منذ العام 2019. ويتخرج سنويا من المعهد عشرات الطلاب الحائزين شهادة رسمية في تعلم اللغة العربية، وتعترف بها وزارة التربية الفرنسية.
وكان المعهد قد خصص قسما خاصا لتعليم اللغة العربية، وهو "مركز اللغة والحضارة العربية" الذي يهدف إلى النهوض باللغة العربية لغة للتواصل، وإلى المساهمة من خلال اللغة في فهم أفضل للعالم العربي المعاصر. وهذا إضافة إلى تنظيم دورات لغة عربية لفئات الجمهور المختلفة. وحسب مدير المعهد عبد الغني سباطة، أقيم المركز من أجل تطوير وتعميق تعليم العربية وفهم العالم العربي وثقافاته المتعددة.
مساجد للغة والدين
ربما تتحمل الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية مسؤولية كبيرة في ربط اللغة العربية بالدين الإسلامي. لكن المساجد لها نصيبها الوافر من هذه المسؤولية.
وقد يكون الإقبال الكثيف على تعلم العربية في المساجد، يتعلق بالهوية ولغتها الأم، وكي يستخدمها متعلموها من أبناء جاليات الإسلام العربي الفرنسي للتواصل في دائرة الأسرة وضمن العلاقات الاجتماعية المحيطة بها. لكن ربط أو ارتباط فهم الدين الإسلامي وشعائره بضرورة تعلم اللغة العربية، يجعل من العربية نفسها عاملا "استقطابيا" على حد تعبير شهال. فتصبح المسألة معكوسة، أي تعلم اللغة العربية من أجل فهم الدين ومحاولة الاجتهاد الفقهي.
أحد اللاجئين السوريين في فرنسا (كان مدرسا للغة العربية في سوريا، وفضل عدم ذكر اسمه) يقول: "بعد مضي نحو عامين على وصولي إلى فرنسا واستقراري فيها، سعيت إلى البحث عن عمل كمدرس لغة عربية. قصدت أحد المساجد في المدينة التي أعيش فيها، ولاحظت أن دورات تعلم اللغة العربية تتضمن برنامجا أوسع بكثير من موضوع تعلم اللغة. فإلى جانب حصة تعلم اللغة ثمة ساعات أخرى لتعليم الفقه الديني وتلاوة القرآن. وبما أنني لم أتقن بعد اللغة الفرنسية، فقد اقتَرحت عليّ إدارة الجمعية التي تدير المسجد أن أحضر صفوف تلاوة القرآن. فلربما أستطيع أن أعلم الأولاد نطق اللغة العربية السليم عبر تعليمهم تلاوة القرآن".
العربية والحجاب
السيدة بيان (لم تشأ الإفصاح عن كنيتها العائلية) قدمت من دمشق إلى فرنسا مع أسرتها عام 2013. لم يكن لديها الكثير من الخيارات لتعليم ابنتها (13 سنة) اللغة العربية، سوى إلحاقها بصفوف تابعة لجمعية مدنية يشرف عليها أحد مساجد مدينة تولوز جنوب فرنسا. تقول: "التقيت في أحد الأيام إحدى المشرفات في الجمعية. تحدثت معي وسألتني إن كنت أفكر في تحجيب ابنتي. علّلت المشرفة ذلك قائلة: من الجيد أن تعتاد الفتاة منذ الصغر على وضع الحجاب".
"كان الأمر لافتا وصادما" في آن واحد، قالت السيدة بيان التي خلعت حجابها بعد وقت قصير من وصولها إلى فرنسا، على الرغم من أنها كانت تعيش وسط أسرة مسلمة محافظة، وترتدي الحجاب طوال حياتها في دمشق.