يتردّد تاريخ العلوم، بكل فروعه، بين لحظات إيمان ونمو وازدهار، ولحظات تشكك وأزمة. مثلا على ذلك، لنكتف بالتوقف عند ما عرفه أقدم فروع الرياضيات. فبعدما ظهرت الهندسات اللاأقليدية خلال القرن التاسع عشر، أعلنت أن الهندسة التي كان الفيلسوف إيمانويل كانط يعتبر أنها خرجت من يد أقليدس كاملة، كما خرج المنطق من يد أرسطو، والتي كان لايبنتز قد قال عنها: "إن الإغريق قد استعملوا في برهانهم الرياضي كل دقّة ممكنة، فخلفوا للجنس البشري نماذج تُقتدى في البرهان"، مما جعل الفيلسوف برانشفيك يكتب في ما بعد: "ربما كان أقليدس بالنسبة إلى عديد من الأجيال اللاحقة، معلم منطق أكثر مما كان معلم هندسة".
إن هذه الهندسة، بكل ما قيل عنها، سرعان ما فقدت صبغتها النموذجية، وكشفت أن في إمكانها أن تنوجد، جنبا إلى جنب، مع هندسات مغايرة من غير تنافر. الأهم من ذلك، أن تعدد هذه الهندسات جعل الرياضيين يعيدون النظر في "طبيعة" الكائن الرياضي ذاته، الأمر الذي أجمله باشلار في قوله: "تسمح لنا هذه الأشكال الأولى التي اتخذتها الهندسات اللاأقليدية بأن نستخلص الفكرة الفلسفية العامة التي تطبع الحرية العلمية الجديدة. فالدور الذي أصبح الكائن الرياضي يلعبه صار أكثر أهمية من طبيعته، كما أصبحت الماهية تولد، في الوقت ذاته، مع العلاقة وتعاصرها".
هزّة إبيستمولوجية
لم تكن هذه الهزة إذاً مجرد هزة في تاريخ الهندسة، وإنما كانت هزة إبيستمولوجية زعزعت المفهومات الكبرى التي كانت تقوم عليها الرياضيات، كمفهومات الحقيقة والبداهة والأولية وجعلتها موضع شك، بل إنها كانت هزة فلسفية خلخلت أسس العقلانية ذاتها.