دَرَجَ الكثير من الكتاب على تصدير أعمالهم الأدبية والفكرية والفنية بمقولات لكتاب آخرين، خلال حياتهم أو في ذمة الغياب. لا يقف زرع هذه الشذرات عند مفتتح كل كتاب على نحو عام، بل قد يشمل عتبة كل فصل على حدة، كيفما كانت هوية الكتاب، روائية أو قصصية أو شعرية أو فلسفية أو نقدية.
ماذا يعنيه هذا النزوع المهووس بالتشذير الحكْمي الغيري المنذور للعتبات النصية وقد آل إلى تقليد فني ومعرفي تعتمده هندسة الكتب، ولا تستغني عنه في تدبير اشتباكات علاماتها وتفخيخ توطئاتها بالتشوير إلى احتمالات القراءة الدالة على هذا المنحى أو ذاك؟
ما من شيء في صناعة الكتاب ينظر إليه باعتباط، فسواء كان ذا حضور مركزي، أو هامشي، متنا أو حاشية، اقتباسا على سبيل التصدير أو الختم، فهو يحفل باهتمام قرائي يحمله على محمل الجدية، ولا تستثنى منه الظواهر النصية المستأثرة بالعتبات، بالذات التصدير للكتاب أو فصوله بمقولات الآخرين.
تحتمل قراءة هذا التقليد النصي أكثر من تأويل، يمكن الوقوف عند حفنة من زؤان معانيها بهذا التراتب:
يرسم الكاتب أفقا مفترضا للكتاب بإدراج شذرة كاتب آخر في مفتتح عمله. إذ يستند إلى مقولة كاتب آخر، يعني أن وظيفة الاقتباس هذا، تحريضية في المقام الأول، تحفز على الذهاب في اتجاه دلالي تنزاح إليه مجمل التجربة الدلالية لمتنه. وقد يعني الأمر تواطؤا بين ما يقوله الكتاب بشكل متشعب، وماراثوني، وبين ما تقوله الشذرة المقتبسة في العتبة بشكل مكثف وموجز.
كما قد يعني أن المقولة المقتبسة هي محض تأكيد لخطاب الكتاب، ما يشبه إشارة دامغة تضاعف مما يريد العمل قوله، أو تعضد من قوة وصلابة وعمق طبقاته النصية، تخييلا وموضوعا ورؤية وشكلا، أو تضفي قيمة أخرى على جذريته، ألقه واختلافه، مغامرته وجدواه، وبهذا تسبغ عليه المزيد من المعنى.
وظيفة الاقتباس هذا، تحريضية في المقام الأول، تحفز على الذهاب في اتجاه دلالي تنزاح إليه مجمل التجربة الدلالية
ما أن يصدّر الكاتب مؤلفَه بمقولة غيره، حتى يحكم على كتابه بجوار أبدي لمصدر تلك المقولة، بل توأمة بينهما إلى درجة يصعب الفصل بين هذا وبين العمل الآخر الذي اقتبست منه الشذرة. هكذا يغدو كل كتاب اشتعلت عتبته بقبس من كتاب آخر، ملازما بصورة من الصور للأثر المقتطف منه، لا يستطيع أن ينفصم عنه مهما كان ضالعا في استقلاليته ومغايرته واختلافه.
عندما تغادر المقولة مصدرها الأصلي، من كتاب على سبيل الاقتباس إلى كتاب يستضيفها كجرس إنذار في عتبة بابه، لا تعود نفسها كما هي، إذ تنزاح عن سياق سابق، لتضطلع بمهمة طارئة في سياق لاحق. كيف لا وقد زج بها في أفق ثان، وفي انفصالها عن تجربتها الأولى واتصالها بتجربة ثانية، تمسي أكثر تجددا وتحولا وتفاقما، وهي الشظية المحتكم إليها في إشعال نار عالم آخر.
لا يمكن صرف النظر عن الكتاب الذي يرومون من دس مقولات غيرهم في مؤلفاتهم بغرض تلفيقي، استعراضي، كأنما يباهون بعمق اطلاعهم وغور قراءتهم وحذاقة التقاطاتهم التماعات وإشراقات كهذه تعمى عنها بصيرة الآخرين. أو يعتدّون بغرابة ذوقهم في استكناه المريب من الأفكار في معترك النصوص النادرة الفاتنة، واستنباتها على سبيل تلقيح نصوصهم، بغية وظيفة تجميلية أو وظيفة تخصيبية، وفي ألطف الأحوال بغية استرعاء الانتباه، نعم: انتباه، هنا ما ليس هناك.
ألا يقدم هذا الصنف من التقليد (اقتباسات العتبات النصية) خدمة عظيمة لهذه المقولات المنتخبة أولا، ثم لأصحابها ثانيا، وللمؤلفات التي انتدبت منها ثالثا؟
من الراجح أن تكون هذه المقولات أو الشذرات نائمة في مصادرها الأصلية، ممعنة في سبات أو طاعنة في النسيان والصمت، ولا يعدو عمل الكاتب الذي يقتبسها لتصدير كتابه أن يكون موقظها إياها لتنعم بحياة ثانية وتتجدّد بعدما انسلخت عن حالها الآنف، وأضحت معتنى بها في حالها الآني والمآلي، وفق فرصة حظ لتتألق مع أكثر من قارئ يصادفها في عتبة الكتاب الذي استضافها أو أنقذها من الموت.
هي محض مفارقة إذن، أن تتحول مقولة منسية في أدغال كتاب، إلى مقولة مشمولة باليقظة
هي محض مفارقة إذن، أن تتحول مقولة منسية في أدغال كتاب، في منطقة مهملة من مناطقه الهامشية، إلى مقولة مشمولة باليقظة، والاشتعال، وقد تبوّأت مقدمة كتاب آخر.
لعل ما يلفت انتباه قارئ بعد عنوان كتاب هو التماعات مقولات كهذه تتصدّر العتبات، فإما تغريه بامتلاك الكتاب على سبيل اقتنائه وقراءته، أو تنفره منه فتجعله ييمّم بوجهه شطر كتاب آخر.
مهما يكن من أمر، فهذا النوع من التصدير يتفرد بجاذبية شعرية. من ناحية أولى هي حبة عنب يستمرئ القارئ مذاقها فتغويه بالمزيد، ومن ناحية ثانية هي برق ينذر بعاصفة صاخبة تأوي في تضاعيف المتن.
هكذا، فالشذرات المقتبسة، أو المقولات الغيرية المنتخبة لتزهر في مدخل الكتاب، ليست ترفا يمكن تخطيه، أو شيئا زائدا يمكن عدم الاكتراث له، أو علامة كيفما اتفق يمكن ألا يؤبه بها، بل هي تضمر خطورة إلى درجة يمكن لمعنى الكتاب في المجمل أن يسكن توطئتها أو حدها. تماما تصبح جرحا يأوي الكتاب بشكل وجودي، أو ثقبا أسود يبتلع مجرة الكتاب بالأحرى عن بكرة أبيها.