تبين هذه الأرقام أن الجالية السورية في ألمانيا معظمها من المتعلمين الجاهزين للانخراط في المجتمع الجديد والاندراج في سوق العمل. الكاتبة السورية رشا عباس التي التقتها "المجلة" في برلين حيث تقيم، قالت إن كثرة من الكتاب والمثقفين السوريين عزفوا عن تعلم الألمانية، لأنهم يجيدون الإنكليزية التي تعتبر لغة ثانية وأساسية في ألمانيا، وتمكنهم من التواصل والعمل في الدوائر والأوساط التي يحتكون بها. أما مسألة تعليمهم أطفالهم لغتهم الأم، فقد تأخر بروزها في أوساطهم إلى ما بعد إنجازهم شكلا من أشكال الاستقرار، وتنبُّههم إلى أن المدارس الرسمية الألمانية لا تدرج تعليم اللغة العربية في برامجها التربوية، أسوة بالتركية والروسية مثلا. لذا بدأوا، كسواهم من المهاجرين السابقين، البحث عن طرق ووسائل لتعليمهم العربية، فلم يجدوا لذلك مكانا - غير المنزل الذي يعتمدون فيه على أنفسهم - إلا المساجد ومراكز الجمعيات الإسلامية.
شاب سوري متزوج من ألمانية من أصل فلسطيني في برلين، ولديهما طفل في السابعة من عمره، قال إنه فتش عن مدرسة خاصة لتعليم طفله العربية، بعدما اكتشف ارتباط تعليمها في المساجد ومراكز الجمعيات، بالدين الإسلامي وقراءة القرآن. وحين تعرف إلى امرأة سورية سبقته في الهجرة وأنشأت مدرسة خاصة في الحي الذي تقيم فيه ببرلين، وجد أن المدرسة غرفة واحدة يتعلم فيها 5-4 أطفال ساعة أو اثنتين في عطلة نهاية الأسبوع. وبعد تردد ابن الشاب السوري مرات على تلك المدرسة - الغرفة، قال لوالديه إنه غير راغب في تعلم العربية. لذا اتفق الزوجان على أن يكون المنزل مكان تعلّم طفلهما لغة والديه الأم: والده يكلمه بالعربية، وأمه بالألمانية. وهكذا أخذ الابن الصغير يتكلم عربية مكسرة، ولا يرتاح أثناء نطقه كلماتها، فيما يستدرجه والده إلى الكلام بها.
مدارس الدين والعربية
روى مدرّس لغة عربية في مدرسة خاصة ببرلين، وهو مغربي الأصل، أن المدرسة احتفلت في 21 فبراير/شباط 2023 بــ "اليوم العالمي للغة الأم". فدعت أهالي تلامذتها وسواهم من معارفهم إلى المشاركة في الاحتفال. المدرسة قديمة نسبيا، ويعود إنشاؤها إلى العام 2005، تجاوبا مع تزايد طلب الجاليات العربية البرلينية على تعليم أولادهم لغتهم الأم، خوفا عليهم من أن يكبروا ويغتربوا عنها تماما، بعدما دارت على ألسنتهم في حياتهم البيتية. لكن المدرس المغربي الأصل - وهو رئيس نادٍ لدعم اللغة العربية - علّل ذلك الخوف بـ"حنين الأهل إلى بلدانهم الأولى، وإلى ذكرياتهم فيها". أما هو، المدرس، فيرى أن تعلّم العربية غايته "الترابط الأسري والعائلي، وحفظ القرآن، وممارسة الشعائر الدينية"، معتبرا أن "العربية والإسلام واحد لا تنفصم عراه". ولدى سؤالنا إياه عن الكتب المدرسية العربية المعتمدة في المدرسة، قال إنها أُعدّت وطُبعت في فرنسا.
المدرسة هذه واحدة من مثيلاتها في مدن ألمانية عدة. وهي تعلم التلامذة العربية في عطل نهاية الأسبوع. ومعظمها نشأ بسبب غياب تدريس العربية في المدارس الرسمية الألمانية. وكثرة منها تسمى "مدرسة النور"، وتتبع مساجد بالاسم نفسه. وهي غالبا ما تخصص ساعة لتدريس العربية، وساعتين لمبادئ الدين الإسلامي. والأهل يُحضِرون أطفالهم إلى المدرسة، فيتعارفون ويتحادثون على الرصيف قربها، أو في مقهى قريب، منتظرين انصراف أطفالهم منها.
رجل من منتظري أولادهم في المقهى، قال إن اليمين المتطرف الألماني (أي حزب البديل من أجل ألمانيا) يلتقي مع الإسلاميين في إدانة تدخين "الشيشة"، أي النرجيلة. وقال أيضا إنه يكتفي بتعليم ابنه دروس اللغة العربية فقط في المدرسة القريبة من المسجد، عازفا عن حضوره حصة التربية الدينية وحفظ القرآن. وهو أضاف أنه ينتظر أن تقرر الحكومة الاتحادية الألمانية إدراج تعليم العربية في المدارس الرسمية، كي يقلع عن اصطحاب ابنه إلى مدرسة النور هذه. ذلك أنه قرأ في صحف ألمانية مقالات تدعو إلى ضرورة تعليم العربية في المدارس الرسمية. وهذا علما أن قطاع التعليم الألماني ليس مركزيا في إدارته، ولا من اختصاص الحكومة الفيديرالية وحدها، بل هو من اختصاص كل ولاية على حدة.
مبادرات عربية وألمانية
"تدريس اللغة الأم للمهاجرين يساعد في اندماجهم"، يقرُّ عدد من باحثين في ألمانيا. لكن هذا الرأي يتحفّظ عنه رأي آخر ألماني أيضا: "وحدها الألمانية لغة الاندماج". ومفهوم الاندماج غالبا ما ينتقده باحثون يرون أن تعدد الثقافات وأنماط العيش واللغات من ضرورات الديمقراطية، ومناهضة التيارات اليمينية المتطرفة المعادية للتنوع والأجانب، وللهجرة والمهاجرين.
مترجمة سورية مقيمة في مدينة أخن، وناشطة في حملة لتعليم أطفال مهاجرين ولاجئين سوريين اللغة العربية، تمهيدا لتأسيس مدرسة خاصة لهذه الغاية، أشارت إلى أن السنوات العشر التي مضت على موجة لجوء السوريين الكبيرة، نبهتهم إلى ضرورة البحث عن سبل لتعليم أطفالهم لغتهم الأم. وتحت عنوان أو شعار "المدرسة بديلا للمسجد" ظهرت في أوساط مهاجرين يقولون إنهم علمانيون، مبادرات عدة يشارك فيها معارفهم من الألمان. وتدعو هذه المبادرات إلى إدراج تعليم العربية في المدارس الألمانية الرسمية، وتعمل في سبيله.
وتحدثت الناشطة والمترجمة السورية عن صديقة لها تونسية في مدينة أسن، أطلقت منصة إلكترونية لتعليم العربية والثقافة الإسلامية على نحوٍ مختلف عن أساليب ومضامين إسلام المساجد. المنصة تمهيد لتأسيس نادٍ ثقافي، من نشاطاته تعليم العربية للأطفال. لكن مثل هذه المبادرات لا تُغني قط عن العمل على دعوة الإدارة التربوية الألمانية إلى إدراج تعليم العربية في المدارس الرسمية، حسب الناشطة السورية.
في مقالة صحافية في القسم العربي لوكالة الأنباء الألمانية "دوتشيفيلة" (D.W) ورد أن "اللغة العربية خرجت من معاهد الإسلاميات الأكاديمية، إلى الشوارع والحياة اليومية في ألمانيا، وصار لها بعض الحضور في سوق العمل". فبعد برامج لغة الاندماج (الألمانية) ودورات معاهد التعليم المهني للمهاجرين، يجب أن يبدأ التفكير بوضع برامج ومناهج لتعليم اللغة العربية في المدارس الألمانية الرسمية. وهذا بعدما تعالت أصوات فئات واسعة من مهاجرين ولاجئين أصولهم عربية وسورية خصوصا وحازوا الجنسية الألمانية، تطالب بأن يتعلم أطفالهم لغتهم الأم، أسوة بسواهم من أبناء الجاليتين الروسية والتركية، وربما اللاجئين الأوكران الذين استقبلتهم ألمانيا بأعداد كبيرة.
وعدّدت المقالة المبادرات الألمانية التي استجابت عمليا بعض حاجات الجاليات العربية:
• ترجمة الدستور الألماني إلى العربية، وتوزيعه على نطاق واسع في مراكز اللجوء والبلديات ومراكز الخدمات الاجتماعية.
• إصدار بعض الصحف الألمانية طبعات خاصة جزئية باللغة العربية.
• تخصيص برنامج تلفزيوني أسبوعي ناطق بالعربية في عنوان "مرحبا بكم في ألمانيا"، وغايته تعريف المهاجرين واللاجئين بألمانيا ومجتمعها وقوانينها. وأثار هذا البرنامج جدالا في أوساط ألمانية. فالبعض احتج عليه قائلا: "قد نشاهد غدا في التلفزيون الألماني إمام مسجد يتلو القرآن ويرفع الأذان للصلاة!". لكن هذا الاحتجاج جابهته أوساط ألمانية أخرى بالقول إن ألمانيا بلد تعددي منفتح ومستقبل للثقافات واللغات التي تثريه.
• ومن المبادرات الألمانية التي تعتمد العربية في التواصل، تخصيص إدارة الهجرة واللجوء في الولايات الألمانية خطا هاتفيا ساخنا يستقبل اتصالات غايتها استشارات واستفسارات وإرشادات عائلية من اللاجئين والمهاجرين على مدار 24 ساعة. ويتلقى هذه الاتصالات مرشدون اجتماعيون يجيدون العربية، ومؤهلون في القانون والتربية العائلية.
لا فصل بين العربية والإسلام
لكن في المقابل، أثار وضع لافتة باسم أحد الشوارع بالعربية في مدينة دوسلدورف، عاصمة ولاية وستفاليا الإدارية، تحفّظا في المدينة. وقام نقاش بين المحافظين الذين تحدثوا عن "تعريب ألمانيا"، وسواهم من التيارات المرحبة بالهجرة واللجوء والتعدد الثقافي واللغوي. وغالبا ما تثير المسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين، ومن ضمنها اللغة العربية، نقاشا وانقساما واسعين في ألمانيا. وهذا ما حدث قبل سنوات في مدينة كارلسروه، ثاني أكبر مدينة في مقاطعة بادن بعد شتوتغارت، وعدد سكانها 313 ألف نسمة، وتعدّ مدينة جامعية، ووفدت إليها العمالة التركية منذ ستينات القرن العشرين. وفي العام 1988 توسع فيها نشاط جمعيات إسلامية أنشأت مسجدا سُمي مسجد النور.