أثناء تجاذبنا الحديث في سيارتها، أوضحت - وهي تضغط على مخارج الحروف في كلامها - أن حرصها، وصديقاتها من أمثالها "الملتزمات" دينيا، على تعليم أولادهن اللغة العربية، نابع في الدرجة الأولى من حرصهن كأسر مسلمة مهاجرة، على أن يتعلم الأولاد شؤون عقيدتهم. كأنها تقول إن الهجرة هي عامل إضافي ومحفز على ذاك الحرص المزدوج (اللغة العربية والدين الإسلامي) الذي لا تنفصم عراه.
وهي أضافت: "يهمنا أن يتعلم أولادنا الإسلام، حتى بلغة غير العربية. فإلى جانب تعليمهم في المدارس الهولندية الرسمية التي لا تهتم بالدين والتدين، نلحقهم بدروس هذه المؤسسة الإسلامية. ما يهمها أن يتعلموا العقيدة ولو باللغة الهولندية".
دِين أجيال جديدة
إحدى الأمهات المغربيات من اللواتي قابلناهن في المؤسسة - المسجد، قالت بنبرة تستبطن نقدا أو تصحيحا لوضع مختل من وجهة نظرها: "الجيل الأول من آبائنا وأمهاتنا المهاجرين كان معظمهم غير متعلمين. وقد حرصوا على تعليمنا عادات وتقاليد بلدهم الأم أكثر من حرصهم على تعليمنا فرائض الدين. نحن اليوم نفعل العكس".
خارج مبنى المؤسسة الإسلامية تجمهرت عشرات من الأمهات - جميعهن محجبات - وقلة من الآباء، في انتظار خروج أبنائهم. بدا المبنى عاديا، ويشبه المباني السكنية ولا شيء فيه يشير إلى أنه مسجد. وفسر الذين قابلناهم: "هذا النوع من المساجد هو في الأصل مبان سكنية، تبرع بها أفراد من الجاليات المسلمة في هولندا".
في داخل المبنى - المسجد ازدحمت غرفتان مخصصتان للتدريس بطفلات معظمهن بين العاشرة والرابعة من العمر. يرتدين أثوابا فضفاضة طويلة، تغطي شعورهن وتنسدل حتى أقدامهن. وهي تعرف بـ "شرشف/مشمر الصلاة" المعتبر زيا رسميا داخل المدرسة. انكبت بعض الفتيات الصغيرات على ترتيب غرف الدرس. إحداهن تحرك مكنسة كهربائية لتنظيف غرفة جانبية قيل لنا إنها مصلى.
إمام العقيدة
للرد على أسئلتنا واستفساراتنا، بادرت سكرتيرة المركز - وهي محجبة، وقالت إنها لا تتحدث العربية بل الدارجة المغربية - إلى استدعاء مدير المؤسسة، وهو إمام المسجد. عرّف عن نفسه بأنه متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخرج في جامعة لايدن الشهيرة.
أثناء إنجازنا هذا التحقيق، نشرت صحف ومواقع إخبارية هولندية رسالة من وزيرة الشؤون الاجتماعية فان خينيب إلى مجلس النواب، أبدت فيها أسفها على طريقة إجراء وزارتها تحقيقات عن المسلمين والمساجد في هولندا. وقد تبيّن أن بعض البلديات استأجرت وكالة أبحاث خاصة للتحقيق حول المنظمات الدينية الإسلامية، فركزت استطلاعاتها على أتباع المذهب السلفي. وحسب رسالة الوزيرة، استُخدِمت في التحقيق أساليب ملتوية تفتقر إلى الشفافية. وقد جُمعت بيانات شخصية عن المسلمين والمؤسسات الإسلامية والمساجد على نحو لا يسمح به القانون الهولندي. ووعدت الوزيرة بتدميرها ومسحها من أرشيف قاعدة بيانات الوزارة.
شرحنا لمدير المؤسسة - المسجد وإمامه أن أسئلتنا عامة، فوافق على الإدلاء بمعلومات مقتضبة، أفادت أن المدرسة تعلم العقيدة الإسلامية واللغة العربية، وتضم 1100 طالب وطالبة، موزعين على 13 فصلا للذكور و14 للإناث. وهناك 670 طلبا على قائمة انتظار الالتحاق بالمدرسة. وشرح المدير أن لدى المؤسسة منهجا لا يركز على تدريس العقيدة بالعربية بل بالهولندية. أما اللغة العربية فليست أساسية في برنامج التدريس. وهي تُعتمد في العبادات ولمهارات القراءة، بهدف اتقان الأطفال قراءة القرآن. وتستخدم في ذلك "القاعدة النورانية".
وقال المدير إن التعليم يهدف في الدرجة الأولى إلى ربط الأطفال بهويتهم الإسلامية التي تتقدم على الهوية العربية. ويضم منهج المؤسسة دروسا في السيرة والفقه والتوحيد، وجلسات تربوية تُستخدم فيها كتب مبسطة، "كهذا الكتاب" الذي رفعه المدير بيده، فإذا به باللغة الهولندية، وترجمة عنوانه: "موعد مع الملك". وهو أوضح: "يقصد بالملك الله سبحانه وتعالى". وختم كلامه قائلا إن المؤسسة أطلقت منصة إلكترونية مجانية عبر الإنترنت، لمن يطلب التعلّم. ويتضمن المنهج دورات للأبوين أو أحدهما على الأقل.
مصاعب عربيةِ الدنيا
لدى خروجنا من المدرسة رأينا أن الأهل لا يزالون مجتمعين خارجا في دوائر محادثة تشير إلى أن تعارفا أليفا يسري بينهم. ولما لمحنا امرأة واحدة سافرة بين النساء المحجبات - سمى أمثالهن في لبنان الباحث والأكاديمي الراحل حسن قبيسي "أخوات الظل واليقين" - قررننا التوجه إليها، لكنها سرعان ما ركبت سيارتها وغادرت. وقالت صديقتنا المغربية المحجبة إن وجود غير المحجبات بين أمهات المتعلمين/ات أمر عادي، فسألناها: ألا يخلق إلزام الأولاد نظام المؤسسة التربوي قطيعة وتشوشا في علاقة تلامذتها بأهلهم غير الملتزمين دينيا؟ فأجابت الصديقة مبتسمة: ألسنا في بلد يحفظ الحريات الشخصية؟ فران صمت بيننا.
بعض من قابلناهم في المدرسة وسواها من أمثالها، ذكروا وذكرن أسبابا ثقافية، شخصية وعاطفية واجتماعية لحرصهم على تعليم أولادهم العربية. وأبدوا تخوفهم من أن يتحول تعليمها إلى غايات أخرى. وحدسنا أن المرأة السافرة من هؤلاء الذين واللواتي يرون ويرين أن العربية، كسواها من اللغات، أداة تواصل دنيوي متحول ومتغير، على الرغم من خصوصية كل لغة وحميميتها بالنسبة إلى أهلها. أصحاب هذا الرأي يشددون على المساحة المشتركة التي تقيمها العربية بينهم وبين أولادهم الذين يتحدثون لغة موطنهم الجديد. والمساحة تلك هي الجسر الذي يربط الأبناء بأهلهم وبمواطن أهلهم.
لكن مهمة هؤلاء أصعب بكثير من مهمة من يوكلون إلى مدارس المؤسسات الدينية تعليم أولادهم العربية وتعاليم الإسلام. ذلك لأن المدارس الرسمية الهولندية "العلمانية" حذفت من برامجها العربية كخيار لغوي. هذا فيما مدارس الجمعيات والمساجد تقدم اللغة وفق وجبة عقائدية كاملة متكاملة، يحذرها المضطرون إلى تعليم أبنائهم فيها.