على خطى الرحّالة

على خطى الرحّالة

حاول محبو أدب الأسفار وأهل المغامرة والاكتشاف، أن يرحلوا على خطى أدباء الرحلة في تاريخ الإنسان شرقا وغربا، فقلدوا الإدريسي وابن فضلان وابن بطوطة وابن جبير الأندلسي وكولومبوس وماجلان وجورج باك، ولم ينجحوا دائما كما يجب، ولعل بعضهم لم ينتبه إلى أن السفر على خطى الرحالة الآباء ليس مجرد مكان نخطو فيه كما خطوا، ولا من أجل الوقوف حيثما وقفوا، أو عاشوا، أو كتبوا أو عاركوا.

الخطوات الفعلية على خطى أحدهم ليست صورة المكان بقدر الخطوة الفعلية بين اليوم والأمس، ومشاهدات ماضية مصورة تحولت إلى صفحات اليوم توضح ما أصبح المشهد اليوم عليه، ولا أعني المقارنة والمقايسة على وجه التحديد، إنما الدهشة التي خلّفها الزمن بغير حق، وأربكها التاريخ بكل جبروته، وزينها الصدق بعد تزييف.

شعرت أخيرا بدهشة ممتعة أمام كتاب عن أدب السفر وثقافته، كُتِبَ في عصرنا، وهو بعنوان "على خطى هيرودوت" لشابٍ يوناني يُدعى أنطونيو بيناديس. كانت رحلة مدروسة وحسنة التخطيط، بعد أن أرادها أن تكون على خطى هيرودوت، ولكن ليس على خطى قدميه ولا من خلال المواصلات القديمة من حيوانات وسفن، بل بكل بساطة بسيارته، فهو لا يقلد زمنا، إنما ما تعلق بالفكر على خطاه، ليجوب تلك المدن اليونانية التي زارها هيرودوت ووصفها. فكتب أنطونيو كتابه المختلف بانطباعه الجديد تاريخيا وآثاريا وأنثروبولوجيا، لأعده شخصيا بعد قراءته، مثاليا جدا، سجل فيه اهتماماته بكل ما يتعلق بعلم الآثار وأدب الرحلات والجغرافيا، مع فارق أنه جعلنا ننبهر مجددا بتجربة المؤرخ هيرودوت في المدن الأيونية، وهيرودوت الذي لقبه الأديب الروماني شيشرون بـأبي التاريخ، قد سجل أسفاره ورحلاته حول العالم كمؤرخ، لتسمّى بالرحلات التاريخية، لكنه عالج موضوعات تلك الرحلات وأدخل عليها السرد القصصي التاريخي، فجذب العالم، ولا يزال، وأصبح مصدرا للمؤرخين لكل ما كتب، خاصة استطلاعاته الثقافية ومعلوماته التي تعد ثروة بعد أن مَرّ عليها ما يقارب 2500 عام.

كتب أنطونيو رحلته موازيا بين الأسطورة والأمكنة التاريخية وبين الزمن الراهن


أمّا أنطونيو بيناديس الذي درس الصحافة والقانون، فإنه يصحبنا في الرحلة التي قام بها عبر تركيا، بوصفها منطقة أيونية قديمة تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى وعلى البحر المتوسط، وهي رحلة استغرقت خمسة عشر يوما فقط، طالما استخدم سيارته، بدلا من سنوات كما كان مع هيرودوت.  فبدأت رحلته من مدينة بودروم التركية الواقعة على ساحل البحر المتوسطـ، وهي التي كانت تسمى قديما هاليكارناسوس، بدأ منها بوصفها مسقط رأس هيرودوت، وحيث ولد وترعرع، على الرغم من قلة أخبار هيرودوت الاجتماعية والأسرية والعاطفية، إلا أن المؤلف الرحالة أنطونيو لم يضع وقتا، زائرا الأماكن الأسطورية التي وقعت فيها الأحداث المذكورة في كتاب المؤرخ السارد.

فعبر المدن الأيونية كلها حتى وصوله إلى بيزنطة، مثل مدينة أفسس البحرية بمكتبتها الحجرية العظيمة، وهي اليوم كما نعلم منطقة سلجوق، كما مر بمدينة سارديس وهي عاصمة تاريخية وقديمة لمملكة ليديا، فكانت تارة يونانية وتارة فارسية، وبيزنطية لاحقا، واليوم تركية، وزار المدينة المقدسة هيرابوليس، وهي اليوم مجرد هياكل حجرية دمرتها الزلازل، إلى مدينة الفسيفساء بيرغامون، ومدينة طروادة المشرقة في حكاياتها.

كتب أنطونيو رحلته موازيا بين الأسطورة والأمكنة التاريخية وبين الزمن الراهن، وهو في هذه المدن الممتلئة بآلاف السياح، ذاكرا التفاصيل الجديدة التي ميزتها والقديمة التي منحتها العظمة، انطلاقا من رؤيته والثقافة التي ينبغي أن تكون مثل النور في رحلته الانفرادية هذه، خاصة حين وصلت إلى لحظات مكثفة للغاية، على الحدود عند شبه جزيرة آثوس، حيث يعيش الرهبان الأرثوذكس كما في العصر البيزنطي وبشكل متطابق وكامل، مؤكدا أن التاريخ ليس مكانا وحدثا إنما النظر إلى المأزق الإنساني والأزمة الثقافية، نظرة شمولية تعبر عن ثقافة الإنسان الاقتصادية والدينية.

 ليثبت كتابه "على خطى هيرودوت" أن واقع المشكلات السياسية والتحولات المرتقبة كل حين ومشاهد المعارك الحاسمة والمادية، تأتي مع جدل أساسه التفاعل والتلاقح، حتى تغلل المؤلف الرحال في عمق الاكتشافات وحقائقها.

font change