ومثل كل جديد علينا أن نعتاده، كان النصف الأول من القرن العشرين عصر الشباب المثقف، بالمعنى الكلاسيكي، أي الطبقة المثقفة والمؤثرة التي امتلكت عقدا ضمنيا مع العامة لتقود بثقة الكثير من آمالهم، وتقود الحركة العامة للتغير الاجتماعي، وحازت إضافة إلى ذلك فاعلية اجتماعية لإنجاز التغييرات وتحقيقها. فحمل الدارس والمثقف والسياسي في سوريا حينها قدرة على إنجاز التغيير بمسلكه العام والنشاطات التي من الممكن تدجينها وتضمينها في البيئة المحلية. فما كان جديدا في الثقافة والسياسة والوعي الوطني، حمل تعليم الرياضة وتشكيلها والبناء عليها داخل المجتمع فساواها بالعمل الأخلاقي والسياسي بالتالي التوعوي. مع كرة القدم، بدأت الرياضة تتشكل بجوار السياسة.
وكل جديد تتم معايرته مع احتمالات القبول من الفاعلين الدينيين أيضا، وهو ما صنع صراعا بين اللاعبين والمدربين وطبقة دينية. لم تكن اللعبة متاحة للجميع، وأخلاقيات اجتماعية ودينية حاولت مقاومة حُب الشباب لها، لكن الشباب سريعا ما انجذبوا للعبة، وحسب الكثير من المُعمرين في السن، فإنها كانت إحدى أكثر التجارب غرابة لكل من بدأ ممارستها.
لم تسمح الأحياء المدنية المنغلقة والضيقة للعبة بالانتشار بالسرعة الكافية، كونها تتطلّب مساحة، الأزقة القديمة ضيقة لكنها شكلت ألعابها أيضا، وكرة القدم ستصبح لعبة الحي مهما ضاق أفقه، بمعنى ما الاستطالة التي يتطلبها الملعب وجدت في الأحياء القديمة واحتوت هذه الأحياء نشاط لاعبي الكرة شيئا فشيئا، ويبدو أن الأطفال اعتادوا على ركل أي شيء، بالتالي انتشرت فكرة الكرة سريعا حيا بعد حي في سوريا.
انتشار اللعبة والتغيرات القيمية
وقع هذا الانتباه للعبة مع التغيرات في لباس أهل المدن، الطربوش والشروال كانا تحت مرمى الحداثة، البنطال والقميص والألبسة الرسمية للمدارس الأوروبية جعلت تغير الزي، والزيّ هو نفسه تغير للعادات وللرياضات وللانتباه إلى دور الجسد.
حملت الألعاب في الربع الأول من القرن العشرين طابعا استعراضيا، النوافذ التي يتأمل من خلفها الأطفال والنساء صراعات الحي، والألعاب الصراعية والمنافسات الرجولية، بدأت تُشاهد أطفالا يركلون شيئا مستديرا يُمكن صنعه مثلما تُصنع كرات الصوف.
كان ظهور اللعبة الكبير بقرب الثكنات العسكرية للقوات الأجنبية، ثم من خلال دوريات المدارس الأوروبية والعثمانية المنتشرة، إلا أن الأخوين الآتيين من لبنان كُرما بعد خروج العثمانيين بدعم خاص، ولم يكونا وحدهما، الطبقة الرفيعة للدراسة في مدارس الإرساليات الفرنسية والأميركية ومدرسة "مكتب عنبر" الشهيرة، دُعما من الملك فيصل بن الحسين، ودعمت الشقيقين لتأسيس فرق صغيرة وأعطيا أرضا خارج مدينة دمشق، وكانت فسيحة بما يكفي للممارسة كرة القدم. لم تكن حينها رياضة كرة القدم شعبية بقدر ما كانت خلقا لتنافس رياضي بمقومات إنسانية محفزة لشكل مفيد من التنافسات بين المدراس، وبين التجمعات الطلابية. كان الطلاب حينها صلة الوصل بين مجتمع قديم العادات، وقيم معرفية واجتماعية جديدة، أي كانوا اللبنة الأساسية التي ستشكل الهوية الوطنية السورية، وأيضا الأشكال الاجتماعية المنظمة ومنها الرياضة والمسرح، وكانت كل تعبئة تنافسية تتم وفقا لقيم أخلاقية أساسها التنافس والجهد من أجل قيمة، وكثيرا ما كانت الرياضة قيمة جماعية لتنافس شريف وعادل وتشكيل لمعنى تنافسي سوي بين الأقران.
وضعت كرة القدم، مثل الغناء والرقص والموشحات العاطفية، أمام تحدي اعتراض الفاعل الديني، لكن هذا لم ينجح، وفق شهادات مُعمري البلاد اجتاحت كرة القدم المُخيطة من النساء والأمهات المدن السورية مثل النار في الهشيم. تأسس "النادي الشرقي" بدمشق عام 1919 ونُظمت مباراة كرة قدم بين فريق سوري وآخر إنكليزي، وحضر المباراة الملك فيصل وطاقمه الحكومي كاملا. لا بد أن لهذه المباراة أثر كبير في المخيال الاجتماعي والسياسي، خاصة الصيت الذي حصل عليه الملك فيصل جراء تحرير البلاد من العثمانيين مع أبيه وفقا للمخيال السوري، وهو ما منح اللعبة بُعدا جديدا.