القمح في التراث الشعبي والأدبي الفلسطيني: إكسير الحياة

بين جوعى في الخيام وعطشى في القبور

AFP
AFP
امرأة تحضر الخبز في أحد مخيمات النزوح

القمح في التراث الشعبي والأدبي الفلسطيني: إكسير الحياة

غزة: "أنا جائع"، عبارة تتردد على ألسنة الغزيين، رجالا ونساء وأطفالا، منذ بداية الحرب والحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كان الخبز، على مدار التاريخ الفلسطيني، هو الطعام الأكثر شعبية، ولعله ظلّ المكوّن الأشد خصوصية في التراث الشعبي الفلسطيني، حتى وإن توافرت الأطعمة التي تحتوي على الخضر واللحوم، وذلك يعود إلى نهج مرتبط بعادات الآباء، بالإضافة إلى كون القمح منتجا رخيص الثمن، وفي متناول الجميع.

بقي القمح صديق الفلسطينيين، يسدّ جوعهم ويمنحهم الإحساس بالاكتفاء، بصرف النظر عما يرافقه من طعام، حتى باتت له مكانة خاصة انتقلت من الأجداد إلى الأبناء.

المقدّس

يعلي الفلسطينيون، شأن الكثير من العرب والمسلمين، مكانة الخبز ورمزيته، إلى درجة أن الفلسطيني يخاف أن يرمي بقايا الخبز، أو الخبز اليابس في سلة المهملات، حتى لا تزول النعمة. ففي الإرث الديني يعتزّ الفلسطينيون بوصية النبي محمد، "أكرموا الخبز". وفي المسيحية، وُصف المسيح نفسه بخبز السماء، الذي يقيت النفس ويشبعها ويجعلها دائمة النماء.

 بقي القمح صديق الفلسطينيين، يسدّ جوعهم ويمنحهم الإحساس بالاكتفاء

يجمع الفلسطيني بقايا الخبز المنزلي، فيعاود استخدامه في صناعة فتة الحمص، أو أكلة الحار إصبع، أو فتة الدجاج. فيما يلجأ الكثيرون إلى جمعه وإطعامه للطيور والدواجن والحيوانات، وبهذا يعاود الفلسطيني تدوير الخبز بسبل شتى، ولا يلقيه في سلة المهملات. وإن وجد الفلسطيني فتات الخبز ملقى في مكان عام، فإن الثقافة السائدة أن ينحني ليجمعه ويضعه على جانب الطريق.

REUTERS
نازحون فلسطينيون ينتظرون في طوابير لشراء الخبز في رفح، جنوب قطاع غزة، 21 نوفمبر 2023

تلك الخصوصية التي يحملها الخبز في يوميات الفلسطيني، جعلت لغيابه بفعل حرب التجويع الإسرائيلية أثرا مضاعفا، فزادت مشاعر اليأس، حتى وإن توافرت بشق الأنفس مواد غذائية أخرى.

القمح والأجداد

لا يمر القمح مرورا عابرا في التاريخ الفلسطيني، بل يرد في طليعة النشاط الاجتماعي والزراعي، فيورد عالم الآثار الهولندي هنري فرانكفورت في كتابه "فجر الحضارات في الشرق الأدنى"، أن "الأصول البرية الاولى للقمح والشعير لا تزال في سوريا وفلسطين، إذ تطور فن حصاد القمح في هذه المنطقة".

هنالك أصناف عدة عكف المزارعون الفلسطينيون على زراعتها وطرحها في السوق، فيورد المؤلف وصفي زكريا في كتابه "المحاصيل الحقلية" عام 1951، العديد منها مثل: القمح النورسي والقمح الحوراني في منطقة الجليل الأعلى والجلجلولي، الذي زُرع في السهول الساحلية، وكذلك الأبوفاشي، وزرع في قضاء طولكرم. تذكر مصادر أخرى، أصنافا غيرها مثل  قمح "حرباوي" في بيت جرجا، وكذلك هناك القمح "القصري" و"الهيتي" و"دبيّة" و"ناب الجمل" وغيرها من الأنواع.

  هذي هي الحسناء غزة في مآتمها تدور

ما بين جوعى في الخيام وبين عطشى في القبور

ومعذّب يقتات من دمه ويعتصر الجذور

معين بسيسو

لطالما كان القمح بمثابة الكنز في حكايات الأجداد الفلسطينيين، إذ اعتبروه ملاذا من الجوع والفقر، وحاميا من العوز للآخرين في وقت الشدّة، فيرد في الموروث الشعبي الفلسطيني مثل يقول: "شعيرنا ولا قمح الغريب"، وفي هذا إشارة إلى أهمية زراعة القمح، والانتفاع من محصوله الذهبي، وهو ما عزف عنه الفلاحون الفلسطينيون بفعل تكلفة العناية به، وقلة مردوده النقدي، وأيضا، بسبب استيلاء الاحتلال على مناطق شهيرة في فلسطين تخصصت في زراعة القمح، فكانت منطقة مرج ابن عامر، تعدّ سلة خبز فلسطين، لكنها تقع منذ نكبة 1948 تحت السيطرة الإسرائيلية.

AFP
طفل فلسطيني يأكل قطعة خبز في رفح جنوب قطاع غزة

مع الوقت، صار الاستهلاك الفلسطيني للقمح يعتمد على الصادرات، فلا تنتج فلسطين من قمحها الذي تأكله سوى عُشر الكمية المطلوبة.

صناعات

بالإضافة إلى الخبز، أعد الفلسطينيون الكثير من الأكلات المعتمدة على القمح، فهنالك السميد المصنوع من طحن القمح الصلب، ويستخدمه الفلسطينيون في صناعة أكلة "المفتول" الشعبية، التي تستخدم في الأعراس والحفلات الفولكلورية. كما يستخدم السميد في صناعة بعض الحلويات. وهنالك البرغل الناتج من سلق حبوب القمح، ويُستخدم بديلا من الأرز ولصناعة الشوربات. وهنالك الفريكة وهي حبوب القمح الخضراء، وتدخل في العديد من الأكلات الشعبية الفلسطينية والشامية.

AFP
فرحة الأطفال بالحصول على قطعة خبز

كما يقوم العديد من الصناعات الفلسطينية على القمح، إذ تصنع منه المعكرونة والحلويات والبسكويت والنشا، وكذلك الأعلاف، حيث يطعم التبن للحيوانات، والناتج من طحن تلك الحبوب الذهبية.

سحر السنابل

احتفى الأدباء الفلسطينيون بالقمح على مر الأجيال، وأفردوا له مساحة كبيرة في كتاباتهم الشعرية والنثرية على السواء، وكأن القمح برمزيته المتصلة بالحياة، يسكن الأدب والفكر والوعي الفلسطيني. فعلى سبيل المثل، ذهب الشاعر الغزي الراحل معين بسيسو، إلى ربط الحياة والحرية بالقمح، مقدما إسقاطات تتخللها الرموز والإيحاءات، مبرزا اليد المكسورة لغزة، التي لا تستطيع حمل أوجاعها، وواصفا سنابل القمح بأنها الفكرة التي تحمل الثورة ضد الاحتلال، والصوت الداخلي الذي يرتقي بالإنسان للكفاح ضد عدوه، كما يصور غزة بصورة قاتمة في حال غياب القمح، أو إذا أتت عليه النار والجراد، ويقرن ما بين حسن الحياة والأرض، وحالة القمح الناضجة الجميلة، وكأن الحياة في القمح وحده، وكذلك الحرية وعرس الأرض ونهضة الإنسان. فيقول:

 أنا حبَّةُ القمح

التي ماتت لكي تَخضَرَّ ثانية. وفي

موتي حياةٌ ما

محمود درويش

"لسنابل القمح التي نضجت وتنتظر الحصاد

فإذا بها للنار والطير المشرّد والجراد

ومشى إليها الليل يلبسها السواد على السواد

والنهر وهو السائح العدّاء في جبل وواد

ألقى عصاه على الخرائب واستحال إلى رماد

هذي هي الحسناء غزة في مآتمها تدور

ما بين جوعى في الخيام وبين عطشى في القبور

ومعذّب يقتات من دمه ويعتصر الجذور".

القمح ثقة

أما الشاعر حسين البرغوثي، فيستمد من القمح أفكار التحرر من عبء التراب، ويفرد مساحة واسعة للتحليق والثقة بالطبيعة والإنسان ويعتبرها مشروعا يجب المضي فيه، لاكتمال التجربة الإنسانية.

ولا يكف البرغوثي عن محاورة ضمنية للأرض، وكأنه يشكرها على تجربتها الخالدة: حبة القمح، الذهب الذي يحتاج إليه الجسد الفلسطيني ليعتبر الدنيا بيت أبيه، وحياته التي عليه أن يمنحها ثقته الكبيرة. فالقمح عند البرغوثي بوابة آمنة للإنسان إذا أراد دخول الحياة، والبقاء فيها.

يقول البرغوثي في كتابه "سقوط الجدار السابع"، مخاطبا ابنه:

"ابني،

لا تعش في الدنيا مستأجرا

كمن جاءها ليصطاف.

عش دنياك كأنها بيت أبيك

ثق بحبة القمح

ثق بالأرض

ثق بالبحر

وأكثر من ذلك ثق بالانسان".

القمح وإزالة الفناء

أما الشاعر محمود درويش فيزيح شاهدة القبر ليولد من جديد، عبر تجريد جسده وإعادة نحته مرة أخرى على هيئة حبة القمح. تلك الحبة عنده تحمل سر الأرض والبقاء، والرغبة في إزاحة الفناء عن الوجود، فذلك الحلم الذي لطالما بحث عنه الإنسان منقبا عن إكسير الحياة، وهو ما يراه درويش في حبات القمح الصغيرة. ذلك التوق إلى الحياة مع حبة القمح، هو ذاته ما رأته الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان حينما قالت: "تسمع في السنبل نبض الحياة".

AP
حشود من النازحين أمام مخبز

ويبقى القمح عند محمود درويش في "الجدارية" ضمانا للقيام من بعد الموت والجفاف والتيبس، فهنالك خضرة تنتظر ما بعد الأفق، وتعد الإنسان بالنبض والحياة الجديدة، ولطالما حملت شاعرية درويش تفاصيل المشهد وجسدت آلام الماضي والحاضر والمستقبل، فها هم أهل غزة، وبعد عقود من "الجدارية"، ينتظرون الطحين بحواسهم كافة لتعود الحياة إليهم. يقول الشاعر الراحل:

"أنا حبَّةُ القمح

التي ماتت لكي تَخضَرَّ ثانية. وفي

موتي حياةٌ ما".

ولا يعطي درويش القمح شرعية في حقول الآخرين، فمذاقه مرّ غير مستساغ. هنا، وبطريقة الخروج عن المعتاد في الوصف، يجسد الشاعر تراجيديا الحياة الفلسطينية، وبؤس الأرض تحت أقدام المحتل. ويأتي اجتزاء القمح من المشهد الفلسطيني بهدف التعميم، حيث أن الحياة برمّتها مرّة عند الفلسطيني طالما أن الاحتلال موجود. فثنائيات القمح والحياة، والاحتلال والمرارة، وصور أخرى كثيرة، لطالما تضمنها نص درويش الشعري، ليصنع لب العلاقة بين الإنسان وسبل الحياة.

يقول درويش:

"القمح مر في حقول الآخرين والماء مالح/ والغيم فولاذ وهذا النجم جارح/ وعليك أن تحيا وأن تحيا/ وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك/ كم كنت وحدك...".

font change

مقالات ذات صلة