على الرغم من أن الرواية تعتبر ابنة المدينة وسكانها عالمها، وعلى الرغم من مضي زمن طويل على تناول القرية وتفاصيلها في الرواية المصرية منذ طه حسين ومحمد حسين هيكل مرورا بخيري شلبي وغيرهم من الرواد، إلا أن جيلا جديدا من الروائيين يبدو أن لديه المزيد ليقدمه عن هذه البيئة تحديدا، وهو ما ظهر في عدد من الروايات المصرية الصادرة حديثا، وكان اللافت للنظر أن أكثر هذه الروايات هي الأولى أو الثانية لأصحابها، مما يشير إلى انطلاقهم في الأغلب من بيئة قريبة لما عرفوه واحتكوا به بشكل مباشر.
"أول دروب العودة" - شكري سلامة
في روايته الأولى "أول دروب العودة آخر دروب الحنين" الصادرة أخيرا عن "دار المرايا" يحكي شكري سلامة عن عالم قريته الثري بالحكايات والأسرار، من الجدة هانم تبدأ الحكاية وتتمدد حتى تصل إلى الشاب زين الدين إسماعيل المشغول بالبحث عن ماضيه، وبينهما يحضر الآباء مصطفى وزين الدين إبراهيم وغيرهم، ففي الوقت الذي ينتظر فيه زين الدين إبراهيم عودة ابنه الغائب سلامة بعد أن أصبح شيخا يحتاج إلى من يعتمد عليه في حركته، نستعيد معه حكايته منذ طفولته وعلاقته بوالده حتى يتغير الزمن به ويكبر في السن ويتزوج من الفتاة فاطمة التي هي في عمر أولاده، يبحث زين الدين إسماعيل عن معنى لحياته، بينما هو غارق في قراءة الكتب وسماع الحكايات، تأسره حكايات جدته هانم، لكنها تتركه يواجه العالم بعد وفاتها بمفرده، يبحث عن علاقة حب مستحيلة عبر صديقته هاجر التي يتعرف إليها من خلال الإنترنت ويبادلها الحب، ولكنه يخشى مواجهتها، فيذهب في رحلة غريبة للبحث عن أصوله هناك في حارة "النعناعية".
تحضر القرية عند شكري سلامة بتفاصيلها البسيطة، بعلاقات أفرادها ببعضهم والحالة الحميمة بين الجيران، كما تحضر وسائل التواصل الحديثة حيث علاقات الحب من خلال الإنترنت، والمحادثات عبر "الشات" وغيرها، في ما يحضر عدد من الأساطير التي يغرق فيها البطل ويحدث شيئ من التماهي بين حكايته وحكاياتهم، رحلة أوديسيوس بحثا عن أرضه وحبيبته، تلك الرحلة التي يخوض عز الدين رحلة مشابهة لها في حارة "النعناعية"، كما تحضر أسئلة أكبر من قصص أبطال الرواية وعالمهم، وهي أسئلة الوجود نفسها، وعلاقة الإنسان بأصوله وماضيه، وذلك الذي نجد مثالا له عند مصطفى العامل البسيط المثقل بأسئلة وجودية، يسعى وراء أحلام بعيدة ويحاول أن يتخلص من أعباء حياته الشاقة أملا في وضع أفضل، ولكنه لا يربط تحسن ذلك الحال إلا بصورة والده الذي يمكن أن يحيل أيام شقائه الطويلة إلى سعادة.