تحولات صورة الريف المصري في 5 روايات حديثةhttps://www.majalla.com/node/313336/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A-5-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9
على الرغم من أن الرواية تعتبر ابنة المدينة وسكانها عالمها، وعلى الرغم من مضي زمن طويل على تناول القرية وتفاصيلها في الرواية المصرية منذ طه حسين ومحمد حسين هيكل مرورا بخيري شلبي وغيرهم من الرواد، إلا أن جيلا جديدا من الروائيين يبدو أن لديه المزيد ليقدمه عن هذه البيئة تحديدا، وهو ما ظهر في عدد من الروايات المصرية الصادرة حديثا، وكان اللافت للنظر أن أكثر هذه الروايات هي الأولى أو الثانية لأصحابها، مما يشير إلى انطلاقهم في الأغلب من بيئة قريبة لما عرفوه واحتكوا به بشكل مباشر.
"أول دروب العودة" - شكري سلامة
في روايته الأولى "أول دروب العودة آخر دروب الحنين" الصادرة أخيرا عن "دار المرايا" يحكي شكري سلامة عن عالم قريته الثري بالحكايات والأسرار، من الجدة هانم تبدأ الحكاية وتتمدد حتى تصل إلى الشاب زين الدين إسماعيل المشغول بالبحث عن ماضيه، وبينهما يحضر الآباء مصطفى وزين الدين إبراهيم وغيرهم، ففي الوقت الذي ينتظر فيه زين الدين إبراهيم عودة ابنه الغائب سلامة بعد أن أصبح شيخا يحتاج إلى من يعتمد عليه في حركته، نستعيد معه حكايته منذ طفولته وعلاقته بوالده حتى يتغير الزمن به ويكبر في السن ويتزوج من الفتاة فاطمة التي هي في عمر أولاده، يبحث زين الدين إسماعيل عن معنى لحياته، بينما هو غارق في قراءة الكتب وسماع الحكايات، تأسره حكايات جدته هانم، لكنها تتركه يواجه العالم بعد وفاتها بمفرده، يبحث عن علاقة حب مستحيلة عبر صديقته هاجر التي يتعرف إليها من خلال الإنترنت ويبادلها الحب، ولكنه يخشى مواجهتها، فيذهب في رحلة غريبة للبحث عن أصوله هناك في حارة "النعناعية".
تحضر القرية عند شكري سلامة بتفاصيلها البسيطة، بعلاقات أفرادها ببعضهم والحالة الحميمة بين الجيران، كما تحضر وسائل التواصل الحديثة حيث علاقات الحب من خلال الإنترنت، والمحادثات عبر "الشات" وغيرها، في ما يحضر عدد من الأساطير التي يغرق فيها البطل ويحدث شيئ من التماهي بين حكايته وحكاياتهم، رحلة أوديسيوس بحثا عن أرضه وحبيبته، تلك الرحلة التي يخوض عز الدين رحلة مشابهة لها في حارة "النعناعية"، كما تحضر أسئلة أكبر من قصص أبطال الرواية وعالمهم، وهي أسئلة الوجود نفسها، وعلاقة الإنسان بأصوله وماضيه، وذلك الذي نجد مثالا له عند مصطفى العامل البسيط المثقل بأسئلة وجودية، يسعى وراء أحلام بعيدة ويحاول أن يتخلص من أعباء حياته الشاقة أملا في وضع أفضل، ولكنه لا يربط تحسن ذلك الحال إلا بصورة والده الذي يمكن أن يحيل أيام شقائه الطويلة إلى سعادة.
استطاع شكري سلامة أن ينقل عالم القرية إلى ما هو أوسع من مشكلاتها، وأن ينتقل بشخصياته وأبطاله إلى آفاق أرحب وأثرى
هكذا استطاع شكري سلامة أن ينقل عالم القرية إلى ما هو أوسع من مشكلاتها، وأن ينتقل بشخصياته وأبطاله إلى آفاق أرحب وأثرى، وبدت الرواية في بعض أجزائها معزوفة أدبية ترثي لأحوال الإنسان المعاصر في كل مكان، وترسم في الوقت نفسه لوحة واقعية للتغيرات في مجتمع القرية خلال السنوات الأخيرة، كل ذلك في سرد شيق وبأسلوب أدبي محكم، يقدم ببراعة عالم القرية كما يقدم كاتبها إلى صفوف الروائيين الشباب الواعدين في الوقت نفسه.
"يوم آخر للقتل" - هناء متولي
تجمع هناء متولي في روايتها الثانية (الدار المصرية اللبنانية) "يوم آخر للقتل" حكايات عدد من السيدات المهزومات في قرية "كوم الديبة"، المحاصرات بلعنة لا نجاة لهم منها، فإذا كانت النداهة واحدة من الأساطير الأكثر ذيوعا في بيئة الريف والقرى المصرية، فإنها تتحول هنا إلى لعنة "الغريقات" وهي جثث النساء التي تكتشف بعد غرقها في الترعة، ومن خلال حكاية كل واحدة نتعرف على جوانب من حياة تلك القرية وما ترزح تحته من جهل وتخلف، على الرغم من كل محاولات التحديث والتمدن ودخول عالم التكنولوجيا ومواكبة التطور، إلا أنه يبدو تغيرا سطحيا لا ينفذ إلى أعماق شخصيات القرية وأفرادها، وهذا ما تشير إليه الكاتبة أكثر من مرة، حيث تشير إلى فتيات ونساء القرية اللواتي استطعن أن يشترين ملابس من خلال تطبيقات إلكترونية، وحرص العديد منهن على امتلاك أغلى الهواتف النقالة، وفي الوقت نفسه ما زلن ينزعن الدود عن الخضروات في المزارع ويجمعن المحصولات الزراعية، وتعود كل واحدةٍ منهن إلى البيوت لتواصل دورها كأم من دون مساعدة أو تقدير.
نتعرف في الرواية على حكايات أسما وسارة وسمية كبطلات رئيسيات للرواية تتوزع بينهم الأحداث وتتشعب حولهم الحكاية، بدءا بسارة العائدة إلى القرية بعد غياب، وتجربتها الصعبة بعيدا عن القرية تلك التي نتعرف على تفاصيلها في الرواية تباعا، وفي الوقت نفسه تفاجأ بالتغيرات التي شهدتها القرية، لاسيما تلك الحوادث التي تهز أركانها وعائلاتها على السواء، ثم حكاية أسما وعلاقتها المضطربة بزوجها سامح وبناتها، ثم حكاية سمية بنت خليل التي تبدو أكثرهن جرأة تقع في علاقة غرامية مع محمود وتسعى إلى الفكاك من أسرتها ونفاجأ باختفائها في أحداث الرواية، وبينما تسرد الروائية تفاصيل حكايات نساء القرية وعالمها نتعرّف على كل ما يحيط بالمرأة هناك من تحديات وصراعات، بدءا من عوالم الخرافات والأساطير مرورا بمشكلات الزواج والإنجاب والخوف من الفضيحة، والسعي إلى سيطرة الذكور على مقاليد أمور النساء وفرض وصايتهم عليهن، وتبدو حوادث الغريقات الذريعة التي ستجمع هؤلاء النساء للاتحاد والكشف عن الأخطار التي تواجه القرية ولا يتصدّى لها أحد، وفي الوقت نفسه تبدو الحلقة مفرغة، ففي حين يسعى بعض النساء إلى الخلاص من دائرة الهلاك تلك، يسقط ضحايا آخرون، وتعيدنا النهاية التي رسمتها الكاتبة إلى مشهد البداية مرة أخرى: "تنسابُ نساء القرية من أسرتهن كالماء في لحظةٍ واحدة، يصعدن إلى أسطح المنازل، بعد أن ارتدين ثيابا سوداء، حاسراتِ الرؤوس، يصعدن إلى الأعلى حيثُ لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواء لم يختلط بعدُ بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرا غاضبا، يمزِّقن جلابيبهن حتَّى تصير صدورهن حرَّة من دون خوف، ويبدأن في الصراخ والعويل الذي ينهش القلوب، ويُفزع كلَّ الموجودات".
جسدت هناء متولي أن تعبر عالم القرية وما ينطوي عليه من صراعات، كاشفة عن آلام النساء وآمالهن، وتلك المحاولات الدؤوبة إلى تغيير نظرة المجتمع القروي للمرأة التي يبدو أنه يصعب فعلا تغييرها على الرغم من كل ما وصلت إليه القرى من مظاهر التقدم، ولكن تبقى الأفكار راسخة ومؤثرة على الكثيرين.
جسدت هناء متولي عالم القرية وما ينطوي عليه من صراعات كاشفة عن آلام النساء وآمالهن
ربما يؤخذ على الرواية ذلك الطابع البوليسي الذي اتسمت به من حيث وجود جثث وسعي للبحث عن سبب قتل صاحباتها أو اختفائهن، في حين اهتمت الرواية أكثر بالجانب الواقعي المجتمعي، وتفاصيل الحياة البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه في تلك القرية، فلم يعد الكشف عن السبب في تلك الحوادث هو الهدف وإنما فضح أساليب وطرق السيطرة على النساء في القرية بشكل عام.
"بياض على مد البصر " - محمد عبد الرازق
ننتقل مع محمد عبد الرازق في روايته الثانية "بياض على مد البصر" (دار العين) إلى حادثة موت فتاة صغيرة ما بين الانتحار والقتل الذي يتسبب في الكشف عن خبايا حياة عائلة بالكامل، داخل جدران القرية المكشوفة، على الرغم من محاولة أفرادها الانتقال للمدينة والانغماس فيها، إلا أن عالم القرية يظلّ مسيطرا على شخصيات الرواية ومصائرهم، ولا تبدو عند عبد الرازق قوية أو قادرة على تحقيق ما تريده، بل نلاحظ أنه على اختلاف أدوارهم فإن لكل منهم هزيمته الخاصة ومشكلاته وعقده التي تحاصره، ليس الأمر مقتصرا على البسطاء، فحتى ظابط الشرطة الذي يحقق في الجريمة لديه مشكلاته، وطبيب القرية الذي طالما بدا الأبعد من عالم شحصياتها يبدو متورطا أيضا، ولكن يبدو القهر أشدّ حضورا في الشخصيات النسائية الأم هالة ثم البنت/ الضحية ياسمين، في ما تظهر الجدة حليمة صاحبة كلمة مسموعة وصوت قوي، ولكنها كانت السبب في تلك النهايات المأساوية لبناتها وأفراد عائلتها جميعا بالتالي، في الوقت الذي يبدو فيه الأب مسعد محاصرا بين ضعفه الشخصي وعمله في مصنع لا يحقق له مكانة كبرى حلم بها، حتى الابن الأصغر رضا لم ينج من التورط هو الآخر من ملاحقة زملاء مدرسته المتنمرين ومحاولاته استكشاف عالم الكبار في بدايات مراهقته المتعثرة.
لا يكتفي عبد الرازق بعرض شخصيات عالمه في القرية، بل يبدو الاهتمام واضحا لديه بمقابلة ذلك العالم الذي يسود فيه الهدوء والسكينة بعالم المدينة التي يصفها بأنها " كالحة ميتة، شوارعها متشابهة ذات عمارات رمادية، وبالتالي لم تشعره أبدا بأي شيءٍ محبب"، وهكذا رغم كون عالم القرية وشخصياتها أساس الرواية وعالمها السوداوي، إلا أن الكاتب يضع القارئ أيضا في حيرة التشظي بين عالمين، تلك التي كان لها أكبر الأثر في الجريمة التي يجري التحقيق فيها، والتي كانت أحد أسباب ذلك الصراع الدائم بين الأب مسعد وزوجته هالة، التي يصف زواجها وابتعادها عن عالم القرية بشاعرية شديدة، تلك الفتاة التي "تعشق زهرات القطن بلونها الأصفر الزاهي، ثم لوزاتها ببياضها الناصع والوبر الناعم المتشابك والملتف حول البذرة الدَّكْناء، تهيم في تلك اللوزات البيضاء وهي تتفتح على العيدان، ثم وهي تنتفش وتتساقط في أيدي جامعيها..".
لا يكتفي محمد عبد الرازق بعرض شخصيات القرية، بل يبدو الاهتمام واضحا لديه بمقابلة ذلك العالم بعالم المدينة
لم يحدد عبد الرازق زمن الرواية، لكن يبدو من تلك التفاصيل انتماءها لزمن معاصر، لاسيما في ما يتعلق بالعمل في مصنع الغزل والنسيج وتلك العلاقة التي تربط المدينة بالقرية من خلاله، وفي الوقت نفسه لا يظهر أثر التكنولوجيا والإنترنت مثلا في أي لحظة بين شخصيات العمل وأحداثه، مما يشير بشكل كبير إلى انتمائه إلى أواخر تسعينات القرن الماضي أو بدايات الألف الثالث، وهو يشير إلى عالم القرية أكثر ولهذا جاء العنوان موفقا إلى حدٍ كبير وهو يصف حقول القطن "بياض على مد البصر" بكل ما تحمله من دلالات النعومة الهدوء والسكينة، والبياض... الخطيئة في عالم موحش مثل عالم اليوم، كما نلحظ أنه لم يحدد اسم القرية، ولعل ذلك يجعل الحدث وتفاصيله قابلة للحدوث في أي قرية مصرية، وهو يشير إلى ذلك في أحد حواراته ويذكر أنه تعمد ذلك حتى ينجو من الرد العنيف من المجتمع على أحداث تلك الرواية الصادمة.
"قرية المائة" - رحاب لؤي
في روايتها الحائزة على جائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول التي ترعاها دار الشروق "قرية المائة" تقدم رحاب لؤي صورة مختلفة عن عالم القرية، مازجة بين الواقعي والأسطوري في حكايتها عن قرية فريدة لا يجوع فيها أحد ولا يشكو من فقر، تتكون من مائة شخص بالتمام، حتى أنهم كلما ولد لهم مولود جديد انتظروا اختفاء أو غياب فرد مقابله ليصبح هو "المختار"، في تلك القرية نتعرف على عائلات بسيطة أيضا، ولكنها تؤمن بتلك الأسطورة وتمتثل لقوانين سادتها، يخضعون جميعا للعارف بالله توفيق الذي يعتبرونه أمل القرية ومنتهاها، وهو الذي يجمع المختارين المائة عنده في ربوة عالية على النيل لا يقترب منهم أحد.
لا تكتفي رحاب لؤي في روايتها بأسطورة المائة والمختار، بل تضيف إليها أسطورة أخرى عبر عائلة عوض الذي رزق بسبعة أولاد وكان يظن أنه لا يلد إلا الصبيان، حتى تلد له زوجته بنت أخيرة، ويعترض على وجودها ولكنه لا يمكنه يؤذيها أو يقتلها فيسميها "عوض الصغيرة" ويتركها هو وزوجته للعراء، فترضعها نساء القرية وتصبح ابنة كل بيت.
وبين أسطورة المختار وعوض تنشأ تفاصيل الرواية، ويتداخل فيها معهم داود وجابر، وتظهر أنهار زوجة العمدة التي تتغيّر حياتها بزواجه من سعدية تلك المرأة الآتية من خارج قرية المائة، والتي لا تقتنع تماما بكل تلك الحكايات والأساطير، وتنسج الكاتبة من خلال شخصيات الرواية وبينهم عددا من العلاقات المتشابكة التي تكشف بجلاء عن طبيعة سكان تلك القرى ودرجة إيمانهم بالأولياء والحكايات والأساطير التي يمكن أن تقضي على حياتهم برمتها، وتجعلهم لفترات طويلة ممتدة أسرى أسطورة لا أساس لها، وإنما استطاع أن ينسجها من حولهم من بيده السلطة والقوة.
لا تكتفي رحاب لؤي في روايتها بأسطورة المائة والمختار، بل تضيف إليها أسطورة أخرى عبر عائلة عوض
جاءت الرواية قصيرة (نحو 120 صفحة) ولكنها تحمل سمات الروايات الناجحة لجهة التماسك الشديد والتشويق الذي يجعل القارئ مترقبا لكل مشهد فيها، خاصة أنها جاءت على فقرات قصيرة متقاطعة بين حكاية عائلة العمدة، وحكاية عائلة عوض، واستطاعت الكاتبة من خلالها وبلغة مكثفة ورشيقة أن تعرض جانبا هاما من جوانب القرية، وأن تطرح عددا من الأسئلة حول تلك العلاقات التي تنشأ بين أطراف من السلطة المادية والمعنوية في القرى، بين ذلك العمدة الذي يفرض سيطرته ويهابه الجميع أو بين شخصية توفيق الذي يحسبون له حسابا دون أن يروه، أو بين علاقاتهم الأخرى بعضهم ببعض وما يدورون فيه من هم يومي ومحاولات مستمرة للنجاة.
"أيام العائلة الكبيرة" - أحمد والي
ربما يكون الأمر مخلتلفا قليلا عند أحمد والي، إذ كتب أكثر من عمل قبل روايته الحالية ما بين الرواية والقصة القصيرة، ولكنه يعود هذا العام إلى الكتابة الأدبية مرة أخرى بعد انقطاع نحو خمسة عشر عاما، ليقدم روايته "أيام العائلة الكبيرة" (دار المحرر) التي يحكي فيها سيرة عائلة والي ويعود بنا إلى زمن القرية المصرية في ستينات القرن الماضي وما بعدها، راصدا أحوال الفقراء والبسطاء في ذلك الزمن الذي يوصف بأنه الزمن "الجميل"، ونرى عنده صورة مختلفة للقرية شديدة البساطة والحميمية، قادرة على تجاوز كل المشكلات والصعاب بالصبر والرضا، حالة من الحنين للماضي ستتلبس القارئ وهو يتابع تفاصيل الرواية التي تحكي عن شخصيات تتعرف على صوت أم كلثوم عبر الراديو لأول مرة، وتسمع خطابات عبد الناصر وتتفاعل معها، وتتعامل بالقرش والمليم، ويدور بينها العسكري ليحصل الغرامات، في حين يصف الكاتب اجتماع العائلات الصغيرة حول الفرن لإعداد الكعك والبسكويت والفطائر في العيد آخر أيام رمضان، وتتداخل حكايات الأطفال ومغامراتهم مع قصص المراهقة واكتشاف الفرق بين الرجل والمرأة، وكيف تتحول مصيبة كبرى مثل وجود البنت والولد عاريين معا إلى مجرد مادة للتندر بين عائلتين في ما بعد.
يعود بنا أحمد والي إلى زمن القرية المصرية في ستينات القرن الماضي وما بعدها، راصدا أحوال الفقراء والبسطاء في ذلك الزمن
من خلال ستة عشر فصلا متصلا منفصلا يحكي والي أطرافا من حكاية تلك العائلة، ويبدو متعاطفا مع أفرادها، بل إنه يضع أحيانا هوامش توضح تاريخ بعض الشخصيات بعيدا عن سير حياة شخصيات أخرى في المتن، وتبدو تلك الهوامش أحيانا مادة ثرية غنية بأن يضيف إليها المزيد من التفاصيل، فمن هذه الشخصيات مثلا شخصية الحاج علي الحلّوفالذي يحكي عنه أنه كان "عملاقا ذا جرم هائل، ما من باب مهما ارتفع يستطيع العبور منه إلا إذا أحنى قامته، وكان كفُّه عريضا كمطرحة الخبيز، إذا نال منه أحدٌ كفا نقله الإسعاف، وكانت قدمه كالمدقّة يستسمحه جيرانه من الفلاحين أن يسير بها فقط على الحدود بين الأراضي حتى يدك الفواصل فلا يتسرب الماء من الحقل حديث السقاية لأرض الجار فيفسد زرعها الماء الزائد. مجرد مروره على الحد يقوم مقام المدقة التي تستهلك الجهد والعرق والوقت ويتوه فيها خمسة من الرجال"، وهكذا ينتقل القارئ من حكاية لأخرى ومن شخصية لأخرى حتى تكتمل صورة هذه القرية وتلك العائلة التي تترك مكانها في النهاية وتترك بيت "العائلة الكبير" لتثير كل هذه الشجون في نفس كاتبها.
يكتشف القارئ في النهاية أن الرواية لم تكتب دفعة واحدة، بل كتبها صاحبها كقصة قصيرة منذ أكثر من 40 عاما، ونشرت في مجلة الثقافة الجديدة حينذاك وتلقى عنها إطراء كبيرا من النقاد الذين نصحوه أنها تصلح فصلا في رواية كاملة، وأنها ارتبطت عنده بجهاز التسجيل الذي اشتراه في ذلك الوقت وكان وسيلته لسماع أغاني فيروز والشيخ إمام، بل ونافذته هو وعائلته إلى العالم في ما بعد، واستطاع أحمد والي أن يجمع تلك القصص والحكايات وينسج من خلالها عالم روايته المتماسك المحكم، وأن يقدم لوحة أخرى شديدة الجمال والخصوصية للقرية المصرية كما كانت منذ سنوات ببساطة وصدق واضحين.