المسلسل

 ورأى كتّاب أن هناك إشكالية ما في بث المسلسلات التي تُعرض كلّ مساء وبالذات تلك المسلسلات المُشَوِّقَة بقصصها الاجتماعية، وهو ما قرأته في قصّة قصيرة لا تُنسى، نشرها الكاتب سليمان فياض وقتذاك في مجلة "إبداع" المصرية وخلاصتها أن رجلا تأخر في عمله إلى ساعة من الليل، موعد عرض المسلسل اليومي في التلفزيون، فلم يجد سيّارة أجرة تقله إلى منزله، فالجميع في منازلهم يشاهدون المسلسل. والسيارات القليلة التي كانت تمرّ مسرعة من أمامه بدا أن أصحابها يحاولون اللحاق بعرض المسلسل، ولأنه كان يعاني من مرض فقد ازداد ألمه وصار يتقيأ دما وهو يحاول أن يصل إلى شقته ليتناول علاجه المعتاد. حاول أن يدق الجرس لكن لا أحد سمعه في البيت، فصوت الجرس يتداخل مع مؤثرات المسلسل الصاخبة، الذي كانت زوجته تشاهده مع أولاده. ظل يتألم ويصرخ فيما تتسع بركة الدم الصغيرة التي سقط فيها مع نهاية المسلسل.

ها هي بركة الدم تتسع أكثر مع هذا الشهر الكريم بمسلسلاته التي فاقت، ربّما، المئة في القنوات العربية. فالجميع مشغول بمشاهدة هذه المسلسلات، يتنقلون من قناة إلى أخرى، غير عابئين بالدم المسفوح في فلسطين والسودان وغيرهما. وإذا ما وجدوا لحظة فراغ أثناء الفواصل الإعلانية فلن تكون إلا لقراءة وكتابة التعليقات عن نجاح أبطال المسلسلات في أداء أدوارهم.

بركة الدم هذه تشاهد بوضوح أكبر في مشاهد تبث على الهواء مباشرة، فيها كلّ مقومات المسلسل الناجح من قصّة وحبكة وتشويق وإثارة، لكن البعض لا ينتبه إلى هذا المسلسل لاعتقادهم أنّه مكرّر وممل.

هذا المسلسل ستجدونه في غزّة، حيث هناك من يقوم بدور المتغطرس القاتل، من خلال تدميره بيوت القطاع بأسلحة حديثة فتاكة وإبادته عشرات آلاف السكان، ومن تبقى منهم يتركهم في حال جوع أو ترقب لأي قصف يودي بحياتهم، ومنهم من يعتقلهم ويعرّيهم من ملابسهم أثناء التحقيق والتعذيب، سواء كانوا رجالا أم نساء. وهو سلوك قد يعجب الباحثين عن الإثارة، خاصة مع ممارسة التحرّش الجنسي ضد المعتقلات في السجون الإسرائيلية.

ولا يخفف من وطأة إرهاب مخرج هذا المسلسل وغطرسته إلا أولئك الذين يخرجون إلى الشوارع كلّ يوم، ويصرخون: لا.

فما يحدث في غزة له أولوية إنسانية عن كلّ المسلسلات والأحداث والمواضيع، إذ أن من الصعب تصور استقرار حال العرب في المستقبل دون وجود حل عادل يحفظ للفلسطينيين الحق في التحرر والاستقلال. فالخروج من الاحتلال وتبعاته سيتيح للكثيرين الاهتمام بقضاياهم المحلية، وربما مشاهدة مسلسلاتهم التي تتناول هذه القضايا دون الشعور بأن هناك أولوية أهم.

أعرف أن البعض يهمه أن يتسلى وسط متطلبات الحياة اليومية الاستهلاكية التي لا تتيح له أحيانا فرصة ليفرّق ما بين رجليه ويديه، وهو يركض بحثا عن منقذ، أو ما يشبه المنقذ من مشاكله اليومية. فالتلفزيون فيه ما يفيد من قصص ومعلومات وترفيه، لكنّه مع اكتظاظ برامجه وسهولتها الجاذبة أو المغرية لكل مشاهد يرغب في تمضية الوقت، بات عبارة عن وسيلة إلهاء أكثر من أن يكون نافذة للمعرفة، مثله مثل الوسائط الاجتماعية التي يخرج منها المتصفح مشتت الذهن، بلا خيط يقوده إلى فكرة أو قرار.

كما أن بعض المعتادين على العيش في الهشاشة، لا يتحمّل حتى سماع أخبار المجازر الوحشية، فأعصاب هؤلاء ونفسياتهم تنهار لمجرّد إخبارهم بعدد القتلى أو بالطريقة التي قُتلوا فيها، فما بالكم بمشاهدة ذلك.

من هنا قد تفيد المسلسلات في إيجادها توازنا نفسيا لهؤلاء الذين عاشوا نمطا من الحياة لا يحتملون معه مشاهد العنف، أو بالأصح مشاهدة القتلة وهم يمارسون هواياتهم في القتل عبر الهواء مباشرة.