تحرير الشعر من الأدبhttps://www.majalla.com/node/313271/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8
هذا العنوان مقتبس من كلمة كان هايدغر ألقاها تحت عنوان: "ملاحظة قبل قراءة أشعار" يقول فيها: "أسمح لنفسي بهذه الملاحظة التمهيدية كمستمع من بين المستمعين. وهي ترمي إلى الإشارة إلى الكيفية التي ينبغي أن نُصيخ بها السمع. فما عسى، في هذا العالم المهتز، يستحق أن يُطرح موضع سؤال أكثر من القصيد؟
ولكن، أليس من قبيل المغامرة، في زمن تسقط فيه فضاءات الكائنات البشرية في هوة الخلط والتشويش، الخوضُ في قراءة عمومية، وإلى حد ما اعتباطية، لبعض القصائد؟ ومع ذلك فالإنسان، كما يقول هولدرلن، شاعر يسكن هذه الأرض. حتى الوجود وسيادة التقنية يستمدان حياتهما من حقيقة هذا الكلام. إلى أي حد يسكن الإنسان شاعرا؟
إذا كان الإنسان يسكن على هذا النحو فلأنه يتكلم. كيف يتكلم الإنسان؟ إنه يتكلم من حيث إنه يستجيب للغة. ذلك لأن اللغة، على وجه الدقة، هي التي تتكلم. والناس لا يتكلمون قط إلا من حيث يستجيبون، أي من حيث إنهم يُودعون وجودهم إلى الكلام الذي يأتيهم من اللغة. لكن، كيف تتكلم اللغة؟ إنها تتكلم أصلا وتتحقق في الشعر. بيد أن الشعر ليس هو الأشعار. النثر أيضا شعر. ليس كلام النثر نثريا. لذلك فإن النثر الحق نادر ندرة الشعر الرائع.
ذلك لأن اللغة، على وجه الدقة، هي التي تتكلم. والناس لا يتكلمون قط إلا من حيث يستجيبون
هايدغر
لكن، ما سبيلنا إلى إنقاذ القصيدة الشعرية من فقرها إلى موطن؟ هل في استطاعتنا أن نحرّر الشعري من هذه الوضاعة؟ ولكن أين تكمن وضاعة الشعر؟ إنها تتجلى في التأليف الأدبي، تتجلى في الأدب. إن كتابة القصيدة تفرض على قول الشعر، مسبقا، شكل المكتوب. والمكتوب بدوره يدعو إلى مجرد قراءة قراءٍ مبعثرين لا تجمعهم أي رابطة. حينئذ لا يغدو ما يقوله الشعر سوى موضوع للقراءة. فلا يعود نشيدا وغناء. اللهم إلا إن تأتى أن يكون القارئ هو الشاعرَ نفسَه، فلا يكون حينئذ إلا نبرة من النبرات التي يسمح الشعر بقولها.
أجيب توا بلغة عبد الفتاح كيليطو: نقل الشعر من الألفة نحو الغرابة، وتحريره مما رسخه النقد الأدبي وتاريخ الأدب. إذ لا ينبغي أن ننسى أننا تعودنا كثيرا، كما يقول رولان بارت، المماثلة بين الأدب وتاريخ الأدب. تاريخ الأدب هو أساسا موضوع مدرسي، لا وجود له إلا في التدريس كما كتب بورخيس، إلى حد أن العبارة "تدريس الأدب" تكاد تكون تحصيل حاصل. الأدب هو ما يُدرس وكفى. تاريخ الأدب، كما يقول بارت في موضع آخر، "يجعلمن الأدب موضوعا ثقافيا محددا منغلقا على ذاته كأنه يتمتع بتاريخ خاص به، تاريخ تُثبَت داخله قيم كأنها نوع من الأصنام المغروسة في مؤسساتنا". لذا يرى بارت هو كذلك "أن ما ينبغي البدء بالقيام به أساسا [...] هو زعزعة فكرة الأدب ذاتها".
هذا ما حاول كيليطو أن ينبَه إليه منذ كتابه الأول حيث حاول إخراج النقد من ميدان القيمة والنقود والصيْرفة، ليجعل منه عملا سندباديا يتجول في فضاءات مختلفة، تنقلنا من الألفة إلى الغرابة. فقد عودنا تاريخ الأدب أن ننظر إلى العمل الأدبي من خلال ميتافيزيقا الذاتية والإرادية وفلسفة الوعي والمباشرة، والنزعة السيكولوجية والأخلاقية، ونرى فيه عمل الأبطال و"القمم"، ونتيجة الإبداع، فننتقل من النصوص إلى النفسيات، وننظر إلى القصيدة على أنها "تعبر عن نفسية الشاعر" مغفلين عمل النوع. من هنا ضرورة تحرير الشعر مما رسخه الأدب وتاريخه من ثنائيات، ابتداء بالتمييز بين النثر والشعر.
لإدراك معنى ذلك ينبغي أن نميز، مع هايدغر، الكلام Parole عن الخطاب Discours، أو الاستدلال المكتوب. من هنا عناوين بعض محاضرات الفيلسوف الألماني: "سيرا نحو الكلام"، و"كلام أنكسمندر". في الكلام لا مكان للتحليل والضبط، ولا للدعوة والقراءة التعليمية التي تشمل "قراء مبعثرين لا تجمعهم أي رابطة". الفكر، ينبغي له أن يقال عن طريق الكلام وليس عن طريق خطاب. الكلام يتكلم الوجودَ ولا يتكلم عنه. الخطاب يستدل ويتكلم عن، أما الكلام فيسير نحو. الكلام يُتناقل، إنه لغة الموروث، اللغة المثقلة بالزمن، إنه الصوت الذي يأتينا من أعماق التاريخ، ذلك الصوت الذي، حتى وإن لم يكن مسموعا، حتى وإن كان صمتا، فهو يتكلم. مقابل هذا الكلام الذيينقل الفكر، هناك ما أطلق عليه نيتشه: "التسيير الإداري للفكر". مقابل الكلام، هناك الخطاب. الخطاب يُتَوصل إليه، ويُبرهن عليه. إنه استدلال، ونحن الذين نسير نحوه ونستدل عليه ونشير نحوه. نحن نتلقى كلام أنكسمندر وكلام هيراقليط، ونتدارس خطاب المنهج لديكارت، والخطاب حول اللامساواة لروسو، وهذا بالضبط هو ما أصبح الحاسوب يسهله علينا.
جوهر الكلام
في الفصل الأول من كتاب "الكتابة والتناسخ" يقف كيليطو عند الكلام الذي يصدر عن صوت الأقدمين، صوت التراث. فـ"هذه الطريق التي داستها أقدام عديدة، مرسومة مقدما: يتعين إذن اقتفاء الآثار التي لم تنطمس كاملة. نعلم أن هوميروس يتوجه، في مستهل الإلياذة، إلى ربات الفن طلبا للمعونة. أما عنترة فينادي شعراء الماضي وصوت السابقين، الصوت الوحيد الذي، خارجا عنه، لا يتبقى شعر ولا ما يمكن أن يقال...الشاعر هو، قبل كل شيء، منقب في الآثار التي طواها النسيان أو كاد. وعليه أن يصارع النسيان، وأن ينفض التراب الذي يكسو الديار.
قلنا إن الشعر، الذي "يسمح لجوهر الكلام بأن يأتي إلى الكلام"،لا يُختزل إلى الأشعار عند الفيلسوف الألماني. فكل الفنون، بما هي تكشف عن الموجود، هي شعر. إنها Poiésis، إبداع لا ينحل إلى مجرد صناعة. لا يعني ذلك أن كل فن ينحل إلى اللغة، وإنما أن لكل فن علاقة جوهرية بالكلام من حيث هو يكشف عن الكائن. وهكذا فكما يقول جان بوفري في كتابه عن هيراقليط وبارمنيدس، الفيلسوفين اللذين مزجا بين الفكر Denken والشعر Dichtunget poème) noème("فإننا نشهد في فجر الفكر الغربي أكبر معجزة، أعني أن يتمكن الفكر والشعر من أن يتحدا، ويلتقيا في ذلك الفجر كي يصغي كل منهما إلى الآخر، في ذلك الفجر الذي لم تزل فيه الكلمات بعدُ علاماتٍ تحيل وتشير حيث كان هيراقليطس يردد: إن المعلم في معبد دلف لا يكشف ولا يُخفي، وإنما يحيل ويشير".
إن كان علينا أن نحرر الشعر من الأدب، فربما لا يمكننا إلا أن نفتح الفلسفة ذاتها على ما "يُمكّن جوهر الكلام من أن يأتي إلى الكلام"
نعلم أن نشأة الفلسفة ستكون على حساب هذا الالتقاء. وهي ستقترن عند أفلاطون بطرد الشعراء من الجمهورية. سنجد شيئا من هذا في ثقافتنا العربية يشير إليه كيليطو في كتاب التخلي عن الأدب عندما يتوقف عند المناظرة التي ينقلها كتاب الحيوان للجاحظ بين مناصري الفلسفة ومناصري الشعر. يتساءل كيليطو: "تُرى من يتحفظ هذه المرة من الشعراء؟ إنهم مناصرو الفلسفة الذين يتصدون لمناصري الشعر... وهكذا وعلى العموم فإن فضيلة الشعر، سواء أكان عربيا أم بلسان آخر، هي في الوقت ذاته لعنتُه، وذلك لاستعصاء ترجمته. الفلسفة متاحة للجميع بينما الشعر مهيأ حصرا لذوي القربى، لأصحاب اللغة التي أنشئ بها. إنه بخيل على غير أهله وأناني، لأنه مبني على اللامبالاة بمن لا ينتمون للأسرة اللغوية".
وبعد..
بدأنا حديثنا بدعوة هايدغر إلى تحرير الشعر من الأدب، وها نحن نراه مع جاحظنا يبتعد عن الفلسفة. ما هو مؤكد أن هذا ما كان ليرضي الفيلسوف الألماني الذي هلل فرحا يوم اكتشف هولدرلن، فراسل زوجته مخاطبا "يظهر لي هولدرلن في هذه اللحظة كتجربة جديدة كأنني أقترب منه بكيفية أصيلة للمرة الأولى". وقد يصح قول الشيء ذاته عن صاحب هكذا تكلم زرادشت فيما قبل، وربما قد يصدق الأمر على انتعاشة الفلسفة المعاصرة بأكملها. فإن كان علينا أن نحرر الشعر من الأدب، فربما لا يمكننا إلا أن نفتح الفلسفة ذاتها على ما "يُمكّن جوهر الكلام من أن يأتي إلى الكلام".