أولا: في ما يتعلق بالأشعار الموجهة إلى التلامذة، والتي توضع في كتب التعليم ما قبل الجامعة، وخصوصا في المرحلة الابتدائية، ينبغي أن يكون اختيارها سديداً، يجذب الصغار ولا ينفّرهم. ينبغي أن يأتي بما هو جميل قبل أي شيء آخر. وهذا للأسف ليس متوفرا في الواقع التربوي.
معظم الشعر العربي الذي يُكتب خصيصا للصغار ليس بشعر. ولا يقتصر الأمر هنا على ما يوضع في كتب القراءة التي تُعتمد في المدارس، بل يشمل أيضا ما يُنشر في المجلات العربية الموجهة إلى الصغار، أو بحسب التعبير الشائع المتخصصة بأدب الطفل أو أدب الأطفال.
يحسب الكثيرون من الكتاب العرب أن الأطفال أو الأولاد يمكنهم أن يتلقّوا المادة الشعرية عندما تكون هيّنة وسطحية وساذجة. إنهم في الغالب يستخفون بعقول الصغار ومشاعرهم ومخيلاتهم. وهؤلاء الكتاب هم الذين تنقصهم الرجاحة والرهافة ودقة الحدس وبُعد المخيلة. هكذا نجد الكثيرين من ذوي الادعاءات لا الكفاءات يتصدّون لمهمة الكتابة للصغار، مستسهلين هذه الكتابة التي هي أصعب من الكتابة للكبار إذا مورست على الوجه المطلوب. فالسهولة المطلوبة لا تتناقض مع القدرة والعمق والابتكار، وإنما تتناقض مع التعقيد والتشوش والتكرار الممجوج.
هل يُعقل أن نجد في الكتب والمجلات، التي ندعو التلامذة إلى قراءتها والتعلّم منها، كتابات (شعرية) مليئة بالأخطاء النحوية والاختلالات الوزنية، ومجافية للذوق والحس السليم؟ لكأن أصحاب هذه الكتابات لا يملكون سوى الرغبة في الكتابة، فيما هم يجهلون أبسط مقوماتها. إنهم يريدون اللغة ويخطئون السلامة فيها، كي لا نقول المتانة والسلاسة. وهم يريدون الوزن أو التشكيلات العروضية، إلا أنهم يحسبونها رصفا للجُمل التي تنتهي بما يُشبه القوافي. وهم يريدون الصوَر الشعرية، ويحسبونها تأتي من تسفيههم للظواهر والموضوعات، كي تكون - بحسب ما يظنون - قريبةً من التلامذة.
كيف لمثل هذه الكتابات السقيمة أن تؤسّس لدى الصغار إقبالا على الشعر ؟ إنها لن تؤسس لديهم إلا عزوفا عنه، وكذلك عن اللغة العربية. إزاء ذلك، ينبغي أن يكون حُسن اختيار المادة الشعرية في خطة التعليم المرجوة واحدة من الخطوات الأساسية في تطبيق الخطة، التي ينبغي أن يضطلع بها ذوو كفاءات يعملون ضمن فِرق تملك الخبرة بالتراث الشعري، وتملك القدرة على تأليف الأشعار الجميلة، الجديدة حقا.
تطبيق
ثانيا: في تطبيق الخطة، يعتمد المعلمون على كتاب خاص بهم هو "كتاب المعلّم" (إلى جانبه "كتاب التلميذ" الذي يحتوي على النصوص المختارة للتعليم). في هذا الكتاب درْس يتعلق بكل نص من النصوص الموجودة في كتاب التلميذ، وفيه إرشادٌ للمعلّم أو المعلّمة إلى كيفية قراءة النص وشرحه وتحليله وإشراك التلامذة في ذلك. في هذه العملية يمكن للتلامذة أن يتعرفوا إلى الجوانب البلاغية (الصوَر الشعرية) في النص، وإلى الجوانب الموسيقية (الأوزان والقوافي)، وإلى الجوانب اللغوية والبنائية (العلاقات بين الكلمات أو الأبيات أو الأسطر)... الخ. وبعد التدريب على القراءة، يأتي تدريب التلامذة على الكتابة في موضوع مستقى من النص الشعري الذي شُرح.
ثالثا: لتطبيق هذه الخطوات على نحو جيد أو مقبول، ينبغي إعداد الجهاز التعليمي وتدريبه. وربما تكون هذه الخطوة الأصعب والأهم. فليس لهذه الخطوات أن ينفذها إلا مدرّسون ومدرّسات من أصحاب الكفاءة والذوق، يُدرّبون على إتقان الآلية المرجوة في تقديم النصوص للتلامذة، والعمل على إظهار استعداداتهم وتعزيز مهاراتهم.
هذه الخطة، إذا طُبقت، تحتاج إلى أعوام لكي تؤتي ثمارها. كما تحتاج إلى إمكانات كبيرة، كأنْ تعتمدها وزارة ثقافة أو تعليم في بلد عربي، لتنتشر بعد ذلك في بلدان أخرى. وهذا يقتضي توفّر سياسة تربوية رشيدة لدى جهة تأخذ على عاتقها الاضطلاع بهذا المشروع طويل الأجل. ولكننا في أمسّ الحاجة إليه أو إلى مثله، لأنه سيكون الداعم الأساسي للنهوض بلغتنا العربية في الاستعمال.
فهل نقبَل بأن تستمرّ لغتنا في التراجع لدى الناطقين بها، وعلى وجه الخصوص في مؤسسات التعليم والإعلام، أي حيث ينبغي أن تكون قوية، حتى لا نقول أيضا لدى الكثيرين من الأدباء، وغيرهم من مختلف الكتّاب.
علينا، إذْ نتغنى بلغتنا وبأمجادها، أن نقوم بواجباتنا نحوها. والمشكلة في ظني ليست في قلّة الأفراد المبدعين، وليست في اللغة بذاتها. قد يقول قائل إن المشكلة حضارية عامة، وإنها معقدة جدا، ذات جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية... وما إلى ذلك. ومثل هذا القول ليس بعيدا عن الصواب. ولكن الحل في نظري لا يكون إلا بخطة تعليمية تربوية طويلة الأمد، تركّز على أهمية المناهج وطرائق التعليم العصرية، ويكون الشعر في صلبها.