تنحدر سوريا وهي تحيي الذكرى الثالثة عشرة للانتفاضة إلى مرحلة أشد قتامة، دون أن يكون ثمة أمل في التحسن. فالبلاد تعاني من تصاعد أعمال العنف على نحو لم تشهده منذ عام 2020، ويشترك في ذلك مختلف الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية ووحدهم المدنيون من يكابد وطأة هذا التصعيد.
هذا الواقع الكئيب ليس عرضيا، بل هو نتيجة مباشرة لميل صانعي السياسات إلى إدارة الصراع في البلاد بدلا من حله. ويتفاقم هذا النهج المعيب بسبب تركيزهم المتقطع على سوريا، على نحو ما يفعله مصاب بداء ألزهايمر، إذ لا يتذكرون البلاد إلا في الأزمات الكارثية. ويشبه هذا النهج القائم على رد الفعل اللعب بأعواد الثقاب في منطقة تتأرجح على حافة صراع شامل.
منذ أكتوبر/تشرين الأول، شهدت سوريا أكبر تصعيد في القتال منذ أربع سنوات بمتوسط أكثر من 300 حادث في الشهر. وتستهدف الحملة العسكرية المستمرة التي يشنها النظام السوري وحلفاؤه في شمال غربي سوريا المناطق المدنية تحديدا في إدلب وما حولها. ومع أن النظام يشن غارات جوية وهجمات بالطائرات المسيرة الانتحارية، فإنه يعتمد إلى حد كبير على الهجمات البرية التي يستخدم فيها قاذفات الصواريخ وأسلحة المدفعية. واستهدفت هذه الهجمات العشوائية، التي ترقى إلى مستوى جرائم حرب، أماكن معروفة كالمستشفيات والمدارس والأسواق ومخيمات نازحين من مناطق أخرى. ونتيجة لذلك، فر نحو 120 ألف شخص من المنطقة، أكثرهم ممن نزحوا سابقا عدة مرات، ومنهم من نزحوا بسبب الزلازل المدمرة التي ضربت البلاد في فبراير/شباط الماضي.
تعثرت العملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف، دون أن تحقق أي تقدم منذ منتصف عام 2022
تبرز الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة الوضع الهش في سوريا. وقد أدى توسع هذا الصراع إلى اشتداد حدة التوترات بين الجهات الأجنبية في البلاد مما أدى إلى سلسلة من الهجمات المتبادلة بينها. وتواجه إسرائيل هجمات متزايدة بالصواريخ والطائرات المسيرة، مع توسع الهجمات الآتية من مناطق بعيدة عن الحدود. وردا على ذلك، كثفت تل أبيب هجماتها فنفذت ضربات شبه يومية واستهدفت قادة بارزين في الحرس الثوري الإيراني.
وبالمثل تصاعدت الهجمات على القوات الأميركية في سوريا، لزيادة الضغط الهادف لوقف إطلاق النار في غزة وطرد هذه القوات من البلاد، فأدى ذلك إلى ردود انتقامية اميركية ضد الجماعات المهاجمة.
وفي هذا الوقت كثف الجيش التركي هجومه على "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يقودها الأكراد، ردا على هجوم نسب إلى حزب العمال الكردستاني في أنقرة خلال أكتوبر. وتسببت الغارات الجوية التركية، التي استهدفت البنية التحتية الحيوية، في حرمان قرابة مليون شخص من الماء والكهرباء أسابيع عدة. كما أن الصراع المستمر بين قوات العشائر المحلية و"قوات سوريا الديمقراطية" في دير الزور، يزيد من تفاقم الوضع في الشمال الشرقي من سوريا. وتنشأ هذه التصعيدات من المظالم التي طال أمدها، إذ فشلت الإدارة الذاتية، التي تعاني من ضائقة مالية، في توفير الخدمات الحيوية التي تضمن حقوق الناس الأساسية.
كما كثف تنظيم "داعش" عملياته التي لم تقتصر على الأهداف العسكرية وحسب، بل استهدفت المدنيين أيضا.
وفي خضم هذه التحديات، لا يزال السوريون يعانون من ضائقة لا مثيل لها. فارتفع عدد الأفراد المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية في جميع أنحاء سوريا من 15.3 مليون شخص عام 2023 إلى 16.7 مليون شخص. كما أن ارتفاع مستوى التضخم وتدهور قيمة العملة وارتفاع أسعار السلع الأساسية الحاد، يزيد على نحو متواصل معدلات الفقر والاعتماد على المساعدات الإنسانية. ولكن على الرغم من هذه الاحتياجات المتزايدة، أجبرت الأمم المتحدة بسبب النقص الحاد في تمويلها من الجهات المانحة على تعليق المساعدات الغذائية المنتظمة في سوريا، تاركة الملايين عرضة للجوع.
أما من الناحية السياسية، فقد تعثرت العملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف، دون أن تحقق أي تقدم منذ منتصف عام 2022. وبالمثل، وصلت جهود التطبيع العربية مع الأسد إلى طريق مسدود. ويبدو أن تردد النظام في تنفيذ الخطوات المقترحة، مثل مكافحة المخدرات وتسهيل عودة اللاجئين، أدى إلى تعليق جهود التطبيع هذه، مع خيبة أمل الأسد في تعزيز الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، تعثرت محادثات التطبيع بين دمشق وتركيا بسبب إعادة انتخاب الرئيس أردوغان وتضارب أولويات البلدين، فلم يحدث أي تقدم يذكر.
هجوم 7 أكتوبر ليس حدثا منعزلا، بل حلقة في سلسلة من الأحداث ذات تأثيرات واسعة النطاق
تبين هذه الأزمات بوضوح شديد هشاشة الأوضاع في سوريا وانحدارها الحتمي نحو مزيد من التدهور، وهو ما يؤكد الحاجة الماسة للتخلي عن النهج الحالي لإدارة الصراع. وإذا كان السوريون يتحملون وطأة هذه الأزمات المتفاقمة، فإن تأثير الفراشة الذي تولده هذه الأزمات يتجاوز حدود البلاد، كما يُظهر لنا التاريخ الحديث.
إن التأثيرات المتتابعة التي خلفها هجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر تجسد كيف يمكن لحدث واحد أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار العالمي على نطاق واسع وبطرق لا يمكن التنبؤ بها. هذا الحدث هو جزء من سلسلة من الأحداث غير المتوقعة، بما في ذلك تضحية البوعزيزي بنفسه التي أشعلت الربيع العربي واستيلاء "داعش" السريع على الموصل، مما سمح للجماعة بتهديد الأمن العالمي.
توضح هذه الأمثلة أن هجوم 7 أكتوبر ليس حدثا منعزلا، بل حلقة في سلسلة من الأحداث ذات تأثيرات واسعة النطاق لا يمكن التنبؤ بها، والتي تفاقمت بسبب عدم الاستقرار في المنطقة.
ولعل التدخل العسكري المباشر للكثيرمن الدول في الصراع السوري هو ما يفسر لماذا يشار إلى البلد غالبا على أنه مقبرة التنبؤات، فيما تسلط الشبكة المعقدة من الصراعات المتداخلة في سوريا الضوء على مدى خطورة الوضع الجاهز في كل لحظة لأن ينفجر، مع ما يحمله ذلك من عواقب بعيدة المدى. والإصرار على النهج الحالي الذي لا يتعامل مع سوريا إلا عندما يكون ذلك مناسبا، لن يؤدي إلا إلى تسريع العد التنازلي، معرضا مصير المنطقة برمتها للخطر.