"التكتل المغاربي" بقيادة الجزائر يشعل غضب المغرب

كشفت المعلومات المسربة على هامش اجتماع الدورة السابعة لمنتجي ومصدري الغاز الذي استضافته العاصمة الجزائرية في مارس/آذار، عن حصول توافق أولي بين الجزائر وتونس وليبيا، "لإنشاء تجمع إقليمي لمواجهة الصعوبات الاقتصادية والأمنية الحدودية بشكل جماعي، بما يعود على الشعوب الثلاثة بالإيجاب".

وأعلن بلاغ للرئاسة الجزائرية "أن هذا التحالف الثلاثي سيساهم في لمّ شمل دول المغرب العربي تدريجياً، وحل الأزمة السياسية والأمنية التي تعانيها ليبيا، والأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس...". وكان لافتاً غياب المغرب وموريتانيا عن هذه المشاورات، وهي ضمن الدول الخمس التي يتألف منها اتحاد المغرب العربي، مما يوحي أن الفكرة إقصائية وتقسيمية منذ البداية، الغرض منها إقامة محور تقوده الجزائر لخدمة توجهاتها في المنطقة.

ولا شك أن توقيت مثل هذه التمزقات يطرح الشك والريبة، فالمنطقة العربية تعيش حالا من الضعف الشديد تشهد عليها أوضاع غزة ومآسيها الإنسانية، والمحيط المغاربي غارق في أكثر من نزاع، من السودان إلى دول الساحل، والمنطقة في غنى عن أعطاب جديدة، في وقت يشهد العالم تهديدات بحرب كونية جديدة وصراع وجودي بسبب التغيرات المناخية، وأزمات اقتصادية هي الأكثر حدة منذ ثلاثين سنة.

مخاوف أوروبية من تمدد إيراني عبر الجزائر

يعتقد ديبلوماسيون غربيون "أن هذه الخطوة، في حال استكمالها، ستدخل المنطقة المغاربية في نوع من الانقسام والتشرذم وزيادة منسوب التوتر وفقدان الثقة، وستكون لها انعكاسات سلبية جدا على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك الاستقرار الأمني والهجرة غير النظامية وضعف الجاذبية الاستثمارية والسياحة".

ويبدو الاتحاد الأوروبي متخوفا من تفكك جديد في جنوبه قد يعقّد موضوع الهجرة السرية عبر البحر الأبيض المتوسط، وهو على مشارف انتخابات أوروبية تتزعمها أحزاب يمينية وشعبوية شعارها مناهضة الهجرة، ومحاربة الثقافات الوافدة من جنوب الضفة الأخرى.

وكانت اللغة التي استعملها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي شديدة اللهجة ضد الغرب خلال مشاركته في قمة الغاز، التي غابت عنها دول عربية وازنة. وقد زاد من قلق الأوروبيين، ما إذا كان التمدد الإيراني سينتقل إلى شمال أفريقيا عبر الجزائر. وكان رئيسي أدى صلاة المغرب في المسجد الكبير على هامش القمة.

ولا يستبعد مراقبون وجود تنسيق جزائري - إيراني لتوسيع نفوذ طهران الديني والاقتصادي والعسكري في منطقة المغرب العربي والتغلغل في ليبيا ودول الساحل الأفريقي، وجلب أطراف أخرى مارقة إلى المنطقة لتقويض استقرارها. وهو ما تناهضه الرباط التي كانت قطعت علاقتها مع إيران منذ عام 2018 بسبب دعمها جبهة بوليساريو الانفصالية (عبر حزب الله اللبناني)، وتهديد أمن بعض دول الخليج العربي واستقرارها، ونشر التشيع في أوساط المهاجرين المغاربيين في أوروبا.

وقد يُفهم من سعي الجزائر إلى إنشاء تكتل جديد قريب إلى الممانعة في هذا التوقيت (ما بعد الحرب على غزة، وربما انتخابات إسرائيلية مبكرة ونهاية مرحلة نتنياهو)، كنوع من إحياء "جبهة الرفض والتصدي"، على غرار ما حدث عقب قمة فاس عام 1982 والتي كانت تضم ليبيا وسوريا والعراق واليمن.

ومن المصادفات تزامن لغة الخطاب الممانع مع اجتماعات عربية على مستوى وزراء الخارجية، ضمت عشر دول توصف بالمعتدلة تشمل دول الخليج والأردن ومصر والمغرب، وهي تدعم حل الدولتين وبعضها له علاقات مع تل أبيب.

اللافت أن اختيار الجزائر انشاء تحالف إقليمي مع دول شبه مفلسة أو منهارة، بسبب تداعيات الربيع العربي منذ 13 سنة، قد يمكّنها من استغلال الأوضاع الهشة والتأثير في قرارها السيادي. ومن المعلوم ان تونس تعيش صعوبات اقتصادية ومالية بالغة التعقيد تنعكس اجتماعيا على 12 مليون نسمة.

وتعقدت الأوضاع  أكثر بعد فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على ملياري دولار مشروطة بإصلاحات سياسية واقتصادية ومالية. ولم تحقق بلاد ثورة الياسمين سوى نمو ضعيف، 1,2 في المئة عام 2023، على الرغم من تحسن السياحة بنسبة 45 في المئة.

ومنح الاتحاد الأوروبي تونس تمويلات بقيمة 150 مليون يورو مطلع الشهر الجاري، لكنه ربط بقية المساعدات (نحو 700 مليون يورو) بجهود إضافية للحد من الهجرة السرية عبر المتوسط في اتجاه إيطاليا. وهي شروط مذلة ستتكرر في الشهور المقبلة عندما تجد تونس نفسها بين مطرقة مطالب الأوروبيين، وسندان ممانعة الرئيس، وربط الدعم المالي الجزائري بمواقف معادية لدول عربية في مقدمها المغرب والإمارات.

واعتبر الخبير التونسي في الشؤون السياسية، منذر ثابت، أن "التكتل المقترح فيه تجاوز لاتحاد المغرب العربي الذي فشل في الوصول إلى كونفيديرالية بسبب الخلاف بين المغرب والجزائر"، وقال عضو البرلمان زياد الهاشمي لقناة "المغاربية" إن "الرئيس قيس سعيد أصبح مثل الدمية في يد عسكر الجزائر، يستعمله كيفما شاء في ملفاته السياسية الإقليمية، وكثيرا ما تم استضعاف تونس من بين جيرانها، وأحداث قفصة أكبر دليل على ذلك"، في إشارة إلى تحالف الزعيم الراحل معمر القذافي مع بعض قيادات عسكرية جزائرية خططوا لاحتلال تونس منتصف ثمانينات القرن الماضي.

الاقتصاد لم يتضرر من السياسة

على الرغم من برودة العلاقات بين الرباط وتونس، حرصت هذه الأخيرة على الاستفادة من ميناء طنجة المتوسطي لتحسين تجارتها الخارجية، عبر إطلاق خط تجاري بحري مع المغرب وليبيا، مع استبعاد الجزائر، وهو ما أثار التكهنات والنقاشات حول ما إذا كانت هذه التحركات محاولة تونسية لإحياء اتحاد المغرب العربي تجاريا، دون أن ترفض بالضرورة المبادرة الجزائرية، أو تدخل في تحالفات القطيعة بين المغرب والجزائر. ولا شك أن بلد بورقيبة يدرك أن مصالح الدول اقتصادية في الأساس وليست عاطفية أو أيديولوجية، لذلك تحافظ على شعرة معاوية مع الرباط.

وكانت تونس صدّرت إلى الجزائر 230 مليون دولار من السلع عام 2023، بزيادة 58 في المئة، غالبيتها منتجات تحويلية وميكانيكية وغذائية. في المقابل استورد المغرب من تونس ما قيمته 216 مليون دولار في مقابل صادرات بقيمة 123 مليون دولار بحسب مكتب الصرف المغربي. ويجمع بين تونس والرباط اتفاق "منطقة التجارة الحرة لإعلان أغادير" الذي يشمل كذلك مصر والأردن منذ عام 2004. وكتبت وسائل إعلام تونسية "أن مصالح تونس قائمة مع شركائها المغاربيين ومع دول الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط والقارة الأفريقية، في حين أن التكامل مع الجزائر وليبيا يحتاج إلى أسس معلنة وثابتة وواضحة".

وقال سفير المغرب السابق في الجزائر حسن عبد الخالق "من المستحيل قيام اتحاد مغاربي من دون المغرب الذي يحمل اسمه عبر التاريخ والجغرافيا (...) وللجزائر خصومات كثيرة في جوارها مع المغرب وإسبانيا وليبيا ومالي والنيجر وحتى مع جمهورية الكونغو".

ليبيا قد تحضر وقد تغيب

لم تهتم وسائل الإعلام الليبية كثيرا باقتراح عقد قمة ثلاثية في تونس، وتم تسريب معلومات تشير إلى أن رئيس مجلس الرئاسة المؤقت محمد المنفي ذهب إلى الجزائر بدعوة رسمية في إطار قمة الغاز، لكنه فوجئ بالدعوة إلى "اجتماع تنسيقي" له علاقة بمستقبل إتحاد المغرب العربي، ولم يتم التشاور مسبقا حوله، أو اتخاذ قرار في شأنه. ولم يحضر الرئيس الموريتاني الشيخ الغزواني الاجتماع على الرغم من وجوده في قمة الغاز، وفضل السفر إلى باريس بذريعة وفاة أحد أقاربه.

أما ليبيا المنقسمة شرقا وغربا، فالمعروف عن الجنرال خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق ليبيا (حكومة بنغازي) أنه متوجس جدا من أي اقتراح يأتي من قبل العسكر الجزائري، وكان الخلاف وصل إلى شفا حرب بين الجيشين قبل عامين.

إقرأ أيضا: وزير الاقتصاد الليبي لـ "المجلة": الاستثمار آمن... ومن يأتي أولا يربح أولا

وقال المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي الليبي، محمد السلاك، إن "الظرف الدولي والإقليمي الراهن لا يسمح بمثل هذه الاجتماعات. ويلزم على الدول المغاربية أن تتأنى في اتخاذ خطوة كهذه، خصوصا تونس وليبيا، وتنأى بنفسها عن حالة الاستقطاب بين المغرب والجزائر". وأضاف لوكالة "سبوتنيك" الروسية "في تقديري لا معنى لاستبعاد المغرب بهذه الكيفية سوى الانخراط بشكل منحاز في قضية خلافية بين بلدين شقيقين، وهذا بدوره قد يعمق الخلاف في هذا التوقيت الحرج".

وكان الاقتصاد الليبي تحسن العام المنصرم بعد استئناف إنتاج النفط وتصديره، وزيادة كميته، علما أنه شكل 97 في المئة من عائدات  البلد، بمعدل 1,19 مليون برميل يوميا، جعلته في المرتبة الثانية وراء نيجيريا وقبل أنغولا. كما صدرت ليبيا 2,5 مليون متر مكعب من الغاز إلى إيطاليا عبر أنبوب "غرينستريم" (Greenstream) تحت البحر الأبيض المتوسط. وحقق النمو الاقتصادي قرابة 19 في المئة بحسب صندوق النقد الدولي بعد تراجع بلغ 11,4 في المئة عام 2022.

ليبيا بعكس تونس اقتصاديا

بعكس تونس، لا تحتاج ليبيا إلى دعم اقتصادي أو سياسي من الجزائر، خصوصا أن قرار نهاية الانقسام الداخلي مرتبط بأطراف خارجية لم تتوافق بعد على صيغة الحل. ولن تغامر الأطراف المتنافسة بالإجهاز على مكتسبات حوار الصخيرات وبوزنيقة جنوب الرباط الذي استمر شهورا طويلة، حيث كان الفرقاء الليبيون في ضيافة مغربية دون تدخل في قناعاتهم، وعلى المسافة نفسها منهم. 

للبحث عن خلفيات سعي الجزائر إلى إبعاد المغرب عن التحالفات الجديدة، يجب التوقف عند تدهور العلاقات مع دول الساحل، خصوصا مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، التي شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة. وهي الدول نفسها التي اقترح المغرب ربطها بسواحل المحيط الأطلسي نهاية العام، عبر شبكة من الطرق البرية والسككية لفك العزلة عنها، وتمكينها من زيادة تجارتها الخارجية وتحسين مستوياتها المعيشية والتنموية.

وكتبت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية "ان الجزائر فقدت نفوذها السياسي والاقتصادي لصالح المغرب في محيطها بدول الساحل الأفريقي، وأدار المجلسان العسكريان في مالي والنيجر ظهريهما للجزائر، في حين يقوم المغرب بتعزيز نفوذه في تلك المناطق، واقترح ربطها بموانئه الجنوبية لفك العزلة عن أربع دول حبيسة في الساحل". 

وقال الوزير الجزائري السابق عبد العزيز رحابي لصحيفة "لوفيغارو" أن "استقرار الجزائر تزعزع بسبب الانقلابات في منطقة الساحل، وأيضا بسبب خروج قوة برخان الفرنسية العسكرية من مالي. وتواجه بلاد المليون شهيد حاليا نشاطا متزايدا ومنافسا تلعبه قوى غير إقليمية، مثل روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة وغيرها".

تتزامن هذه التحديات الإقليمية مع تراجع مداخيل الجزائر من الغاز والنفط حيث فقدت 10 مليارات دولار عام 2023 على خلفية تراجع أسعار الطاقة. ولم تتجاوز العائدات 50 مليار دولار بعدما كانت بلغت 60 مليار دولار عام 2022، مما يرفع العجز في موازنة عام 2024 إلى 46 مليار دولار. وهذا العجز سوف ينهك الاحتياط النقدي ويرفع أسعار التضخم الغذائي التي تدور حول 10 في المئة.

وقال الباحث الأكاديمي الجزائري الدكتور عبد الرحمن مبتول "إن التعامل الشعبوي مع المعطيات الاقتصادية والمالية يضر بالمجتمع والمستهلكين، ولا تضمن للدولة مداخيل كافية لتجاوز الأزمة. وقد تدفع نحو ارتفاع التضخم ليصل 20 في المئة"، في إشارة إلى انهيار قيمة الدينار الجزائري أمام اليورو والدولار، مما يجعل الدخل الفردي يتراجع إلى ما كان عليه عام 2011.

وتلفت وكالة "ستاتيسا" إلى شبه ركود في الدخل الفردي في الجزائر بين أعوام 2024-2028 بسبب العجز عن زيادة صادرت الطاقة. ففي ظل الوضع الاقتصادي والمالي الحالي، سيكون من الصعب جدا على الفريق العسكري تحقيق طموحه في قيادة شمال أفريقيا. وتنظر الجزائر إلى التعاون الاقتصادي المتنامي بين أبوظبي والرباط على أنه تهديد خطير لمصالحها، مما دفعها إلى البحث عن حلفاء في مناطق بعيدة مثل جنوب أفريقيا وإيران وموزمبيق.

رد على مبادرة أفريقيا الأطلسية

وكتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية "أن باريس تعززت قناعتها في الفترة الأخيرة على أن الجزائر تتكئ على سردية الماضي الاستعماري، بينما يتطلع المغرب إلى بناء المستقبل الاقتصادي والتنموي وإعادة الهيكلة الإقليمية في أفريقيا، خاصة منطقة الساحل".

يمكن قراءة التسرع الجزائري في إنشاء تكتل دون المغرب، كنوع من الرد الانفعالي على مشروع أفريقيا الأطلسية، الذي كانت دعت إليه الرباط، لإنشاء تجمع جنوب ضفتي المحيط الأطلسي بين أفريقيا وأميركا اللاتينية، على غرار ضفتي البحر الأبيض المتوسط بين شمال أفريقيا والاتحاد الأوروبي. عقد التكتل ثلاثة اجتماعات، ورحبت واشنطن بالفكرة المغربية ووسعتها إلى 39 دولة من سكوتلندا إلى جنوب أفريقيا، كما انضمت أربع دول غير أطلسية في الساحل الحبيسة إلى المبادرة الأطلسية. وأصبح  التكتل الأطلسي يضم نصف عدد الدول التي يتألف منها الاتحاد الأفريقي، على الرغم من أن بعض دول جنوب القارة لم تتحمس بعد للمبادرة المغربية وهي تقف في حياد أو قريبة من الموقف الجزائري. 

إقرأ أيضا: أنبوب الغاز العملاق "حلم أفريقي" بين المغرب ونيجيريا

قبل هذا التاريخ، كان يمكن اعتبار فكرة جنوب الأطلسي مجرد تعاون بين دول صاعدة ونامية لها مصالح متقاربة، لكن التحولات الدولية الأخيرة وما تتعرض له الملاحة التجارية في خليج عدن وباب المندب من اعتداءات على أيدي الحوثيين، تجعل جنوب الأطلسي ليس ممرا بحريا فحسب، بل شريكا جغرافيا واقتصاديا في صياغة النظام العالمي الجديد.