انطلقت من مكة المكرمة يوم الأحد الماضي أعمالُ المؤتمر الدولي "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" الذي تنظِّمه رابطة العالم الإسلامي ويشارك فيه ممثلون من كل الطوائف الإسلامية.وأعلن الأمين العام للرابطة رئيس هيئة علماء المسلمين الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في كلمته الافتتاحية لأعمال المؤتمر عزم المؤتمرين على إطلاقَ "وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"، التي تهدف إلى تعزيز الإِخاءِ والتعاونِ بين المذاهب الإسلامية ومواجهة التحديات.جاء في كلمات بعض المؤتمرين استخدام مفردة "التقريب"، وهذا ما قد يوحي به أيضا مصطلح "بناء الجسور".
لقد جربنا مشاريع التقريب منذ بدايات القرن العشرين ولم نجنِ من ورائها النتائج المرجوة أبدا، فالتقريب وإن كان يسعى في البداية إلى البحث عن النقاط المتفق عليها وتعزيزها، وتقليل قيمة المختلف عليه وتضعيفها، إلا أنه في النهاية ينحرف عن مساره، لأن المختلف عليه يأبى إلا أن يبرز ويزدهر. في كل محاولات التقريب السابقة تحول الأمر إلى مناظرات عقدية على الطريقة القديمة. ثم تتحول محاولة التقريب إلى نوع من التجاذب بحيث يسعى كل مذهب إلى دعوة الآخرين إلى نفسه، ونصبح أمام محاولة للصهر. هذه المحاولة تفشل دائما، فمنذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة والسنّة هم السنّة، والشيعة هم الشيعة، والإباضية هم الإباضية. وحتى عندما ننظر في البيت السنيّ وحده، نجد أن الحنابلة هم الحنابلة والأشاعرة هم الأشاعرة منذ القرن الثالث والرابع، لم ينصهر أحد. لم يغب إلا المعتزلة الذين انقرضوا لأسباب يمكن مناقشتها والاختلاف حولها في مكان آخر. وربما أنهم لم يكونوا مذهبا من الأساس، ربما أنهم جماعة من المثقفين الأحرار الذين لم تكن لديهم رغبة حقيقية في تأسيس مذهب ثابت جامد. يشهد لهذا أنهم كانوا يردون على بعضهم بكل قسوة وهذا ما لا يفعله المتمذهب ولا المتحزب.
عداهم، لم ينصهر أحد، حتى أصغر الفرق. التحول من مذهب إلى آخر أمر صعب للغاية، ولا يقدر عليه إلا أفراد ممن يملكون القدرة على التفكير الحر ومخالفة محيطهم الاجتماعي، أفراد يشبهون شخصية السيد كورتز في رواية جوزيف كونراد "قلب الظلمات"، وكم عدد هؤلاء المتمردين؟ لا شك أنه قليل للغاية.
الحل الوحيد لفرق المسلمين هو التعايش المدني كما هو معروف على مستوى العالم
إذا كان هذا هو المشهد، فلا شك أن الحل الوحيد لفرق المسلمين هو التعايش المدني كما هو معروف على مستوى العالم، فدعاة التعايش لا يناقشون العقائد ولا يصححون المذاهب ولا يعترضون على دين أحد، لأنهم يُدركون حساسية أمر الدين وخطورته.
فالجدل حول الدين لم يكن قط خاصا بالمسلمين، إذ إن البشر منذ أقدم العهود كانوا يتقاتلون ويسفكون دماء بعض وييتمون الأطفال بسبب هذه القضية، ولم يتغير الحال، إلا بعد حرب الثلاثين سنة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتشار مؤلفات ونشاط الفلاسفة التنويريين الداعي إلى التسامح ودفن دماء الماضي ورفع الشعار الخالد "إذا أردت أن يحترم الناس معتقداتك، فعليك أن تحترم معتقداتهم".
أمر الدين خاص للغاية، ولا يمكن إجبار الناس عليه، لأنك إذا وضعت السلاح على عنق أحدهم ودعوته إلى دينك، فأنت بذلك لا تحوله إلى مؤمن بدينك، بل تحوله إلى منافق.