المسلسلات التلفزيونية ليست مرجعا صالحا للمعرفة التاريخية، كذلك الأفلام السينمائية والمسرحيات. خصوصا في بلادنا العربية، حيث لا يزال التاريخ ساحة صراع محتدم، سياسيا ودينيا وجهويا وطائفيا وثقافيا. بيد أن ثمة إصرارا على العودة إلى التاريخ في كثير من المسلسلات واستخدامه كأداة متعددة الأهداف تصب كلها في تشكيل الحاضر وقولبة آراء المشاهدين. وغالبا ما تظهر الاستخدامات هذه في رمضان سعيا من الجهات المنتجة إلى حصد أكبر نسبة من التأثير.
المسلسلات في واحد من تعريفاتها: صياغة درامية لحدث. ولا تخلو أكثر الأعمال الفنية تحريا للدقة من خروج على المعطى التاريخي سواء عمدا لتمرير رسالة أيديولوجية تروج لوجهة نظر المشرفين على الإنتاج أو لسبب فني يحول دون الالتزام الدقيق بالحقيقة التاريخية الموثقة.
مثال على هذه الحالة، أدت الممثلة إملي واتسون في مسلسل "تشيرنوبيل" الذي بثته شبكة "إتش بي أو" الأميركية عن كارثة انفجار المفاعل النووي السوفياتي سنة 1986، دور العالمة "أولانا خميوك" التي تتابع أوضاع المصابين بالإشعاع وتحدد الحجم الحقيقي للأضرار التي تسبب الانفجار بها والتي تتجاوز بأشواط ما اعترفت به السلطات. في واقع الأمر، وعلى الرغم من الالتزام اللافت بدقة الأحداث في المسلسل الذي حاز إعجاب النقاد والجمهور، فإنه لا وجود لعالمة باسم "أولانا خميوك". بل إنها شخصية متخيلة جمعت نشاطات علماء وباحثين وأطباء كثر اهتموا بأحوال المصابين وبمنع تفشي آثار الإشعاع بين المواطنين وسوى ذلك من الإنجازات التي أنقذت آلاف الأشخاص. كان من المستحيل إدخال عشرات الشخصيات في السياق الدرامي لتصوير عمل العلماء الذين حملوا عبء وقاية الناس وعلاج المرضى وكشف أبعاد التسرب الهائلة. هكذا ظهرت شخصية "أولانا خميوك".
المشكلة تبدأ في محاولات فرض تفسير للتاريخ وأحداثه يصب في مصلحة القوى الحاكمة الحالية
تزداد الاعتبارات الدرامية أهمية عند تعدد المصادر وتناقضها. في المسلسلات الدينية مثلا، لا بد من جمع عدد من الروايات من مراجع مختلفة. الأفلام التي أنتجت عن السيد المسيح تضم شذرات من مختلف كتب الأناجيل. فليس من كتاب واحد تروى سيرته على النحو المتصل الذي يظهر في الأفلام. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأفلام والمسلسلات التي تتناول بداية الدعوة الإسلامية والسيرة النبوية وأعلام الصحابة والفتوحات، حيث تتعدد الروايات ويعود الاختيار فيما بينها إلى كاتب القصة والسيناريو وبطبيعة الحال إلى اعتباراته الشخصية والدينية والسياسية... إلخ.
وإذا تداخلت الأزمان والشخصيات وأعمالها، على النحو الذي حصل في مسلسل "فايكينغ" الشهير، حيث تعايشت وتعاونت شخصيات لم تعرف بعضها بعضا ولم تكن في ذات المرحلة الزمنية، ناهيك عن حقيقة وجودها المادي، لا يعد ذلك نقيصة للعمل الفني. ذلك أن أصحاب العمل لم يقدموه كوثيقة تاريخية محققة، بل كرواية وانعكاس لأجواء مرحلة تركت أثرا بليغا في تواريخ أوروبا بمختلف بلدانها، من النرويج والدنمارك إلى إنكلترا وفرنسا وغيرها.
المشكلة تبدأ في محاولات فرض تفسير للتاريخ وأحداثه يصب في مصلحة القوى الحاكمة الحالية. ليس الأمر جديدا. بل ترافق مع ظهور أول أشكال التعبير الفني والأدبي، منذ الألواح الفخارية في بلاد ما بين النهرين، والجداريات الفرعونية. فكل سلطة تسعى إلى تبرير نفسها وإضفاء الحد الأقصى من الشرعية على أعمالها وعلى وجودها حيث هي. هذه سنة الحكم منذ آماد غابرة وغائرة في الذاكرة، وستبقى ما بقيت سلطة أيديولوجية وسياسية واجتماعية، وما بقي فن يقبل الناس عليه للمتعة والمعرفة. لائحة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي استخدمت كأدوات في الصراع الأيديولوجي في العصر الحديث تعصى على الإحصاء.
مسلسل "الحشاشين" مجرد تسلية لا قيمة لها على المستوى التاريخي
ولا عجب أن تكون المسلسلات التلفزيونية الرمضانية هدفا لتمرير رسائل سياسية من مختلف الجهات ما دام الجمهور كبيرا ومتحفزا للمشاهدة المترافقة مع ازدياد الحساسية الدينية في هذا الشهر الفضيل. يقال هذا وفي البال كمية المقالات والتحليلات التي أحاطت بمسلسل "الحشاشين" والذي نرى أنه مجرد تسلية لا قيمة تاريخية جدية لها. فالاسماعيليون بفئاتهم وتاريخهم وامتداد نفوذهم في مرحلة من التاريخ العربي - الاسلامي من المغرب الى مصر، وظهور حسن الصباح والجماعة النزارية ثم استمرار الحكم في قلعة آلموت والخطوات المثيرة للجدل التي اتخذها الحسن الثاني المعروف بـ"الحسن طيب الذكر" بتعليق العمل بالشريعة واعلان القيامة، لا يمكن لمسلسل هدفه الترفيه، الاحاطة بهم وبه، لا من قريب ولا من بعيد. خصوصا ان فهما طفوليا للتاريخ يسود اوساط كتاب السيناريو بل بعض المؤرخين العرب.
أما من يبحث عن معرفة تاريخية جدية وعميقة، فعليه بالكتب في الدرجة الثانية. وإعمال العقل والنقد والمقارنة في الدرجة الأولى.