تتأبّد أزمته في الريف مع بلوغ ابنه "أندريويوشكا" السبع سنوات، في ظلّ إفلاسه المزمن واستفحال ديونه، ومع ذلك يواظب على القراءة، منوّها بعبقرية توماس مان في رواية "موت في البندقية" على سبيل المثال.
محنة
تتواصل محنة المخرج الشقي أمام تعنّت النظام والرقابة وبيروقراطية موظّفي إدارة الأستوديو الذين ينعتهم بالحمقى، زد على ذلك استياؤه من النقاش العقيم الذي دار في الجامعة حول فيلمه "أندريه روبلوف"، ومع ذلك التزم بانتصاره لحريته في العمل، في سبيل الموت بنبل وكرامة، مقابل السقوط الإنساني المطوق بالعمى المادي، أو الانحطاط الأخلاقي الممعن في جرف العصر إلى هاوية مطبقة الظلمة، وعنوان حضيضها السحيق هو الإفلاس الروحي المبين.
على هذا النحو أصرّ على ألا يعمل من أجل المال وحده، فعظمة الإنسان في اعتقاده كامنة في الاحتجاج.
لا يني تاركوفسكي يكشف عن علاقته المعقدة بأبيه خاصّة، بعائلته عموما، إذ تغيب الطمأنينة في اقترابه منهم، ويحضر السلام في ابتعاده عنهم، إنّ ما يسعى إليه هو التحصّن بنعمة الحرية، فلا شيء يرعبه أكثر من أن يرى من يحبّهم يتألمون بسبب أنانيته.
تستأنف يوميات تاركوفسكي كشفها عن قراءاته الروائية بين الحين والآخر:لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هسّه، دكتور فاوست لتوماس مان، التحول لكافكا... مع الاستشهاد المتواتر بمقولات غوته، آينشتاين، هرمان هيسه، ريلكه، شوبنهاور.. على طول المتن.
يتفاقم سحاب التذمّر مُلبِّدا سماء تاركوفسكي بينما هو محاصر في بلده من لدن بطش السلطة التي تمنعه من السفر إلى إيطاليا لكي ينجز أعمالا فنية بطلب من مؤسسات وأفراد هناك، وكذلك عدم الترخيص لأفلامه بالعرض الذي يليق بها خاصة فيلمي "سولارس" و"المرآة"، والسبب المغرض: الغموض. أقسى من ذلك، إنّه يحظى بتقدير عظيم في السويد وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، ويكفي ما كتبه عنه إنغمار برغمان الذي يصف اكتشاف أعمال تاركوفسكي بالمعجزة، غير أنّ المفارقة عدم التقدير الذي يعانيه في مكانه، إذ يتحالف الجهل المطبق بما هو إيديولوجي في إعدامه الرمزي محليّا.
أحكام وانطباعات
وأمّا ما يسترعي الانتباه فهو أحكام وانطباعات وتعليقات تاركوفسكي حول مخرجين طبقت شهرتهم الآفاق، وكذا مشاهداته لأفلام سينمائيّة بعينها لمخرجين هم محض علامات جمالية في لحظتهم التاريخية الموشومة بأعتى الطفرات البصرية الشعرية، وبلا هوادة يتأرجح تقييمه اللاذع بين استحسان ذوقه للبعض، وعدم استساغته للبعض الآخر، مع توقيع ملاحظات غير مواربة، بصراحة حادّة الجرأة، من قبيل:
- فيلم "واترلو" لسيرغي بوندارتشوك: عقل مخجل ومثير للشفقة.
- فيلم "تريستانا" للويس بونويل: سيّء، أحيانا يسمح لنفسه بارتكاب هذه الهفوات.
- أكيرا كوروساوا في وضع مرعب، إنه محاط بفريق من المخبرين والحمقى، الكل يكذب عليه، يجب تحذيره من ذلك.
- المخرج الأجنبي المفضل: روبير بريسون.
- بعد مشاهدة فيلم "عودة أورفيوس" لجان كوكتو: أين ذهب أولئك العظام؟ أين ذهب روسليني، كوكتو، رينوار، فيغو؟ أين ذهب الشعر؟ لم يبق غير المال، المال، المال، والخوف. فليني خائف، أنتونيوني خائف، الوحيد الذي لا يخاف من شيء هو بريسون. فيلم فليني الأخير كارثة، لقد كفّ عن الوجود كفنان. لسبب ما أواصل التفكير في أنتونيوني: إنه أفضل مخرج في إيطاليا.
- المخرج سيرغي بارادغانوف: إنه ليس عبقريا في مجال فنه وحسب، بل عبقري في كل شيء.
- فيلم برتولوتشي "القمر": بشع، رخيص، مبتذل.
-
أمّا الفنان الذي نال القسط الأوفر من لذوعية انتقاده الصّرف، فهو منظّر المسرح ستانيسلافسكي الذي ينعته بالمعتوه، مُقلِّدا إيّاه وصمة الإساءة الكبرى لأجيال المستقبل في المسرح كما فعل ستاسوف في الفن التشكيلي إذ لا يعدو عملهما تزييفا لوظيفة ومعنى الفن.
هواجس
مع التقدّم في قراءة اليوميات يفاجئنا تاركوفسكي بما يهاجسه، عل الأقل ثلاث مرّات:
الأولى، وهو يفكّر في تحويل رواية "الأبله" لدستويفسكي إلى مسلسل تلفزيوني من سبع حلقات. هو نفسه الذي يستثني عمل التلفزة من قائمة الفن وهذا شيء مفارق.