صدمت إذ شاهدت في إحدى حلقات برنامج "كوميدي" عربي رمضاني، لجوء صناع البرنامج إلى صبغ وجه أحد الممثلين بطلاء أسود، لكي يبدو صوماليا أو سودانيا. خيار ليس نابعا من خلفية عنصرية واعية بالضرورة، بقدر ما هو نابع من خفّة النظر في معاني الأشياء، والصور والكلمات، وشبه انعدام التقاليد القيمية التي من شأنها وضع حدّ واضح بين ما هو مقبول، ولو من باب الفكاهة، وما ليس مقبولا احتراما لمشاعر الآخرين ومراعاة لقيمهم.
في مسلسل آخر، ثار نقاش حول طريقة تصوير الحيوانات، إذ نرى إعدام قطط بطريقة وحشية، وعلى الرغم من إشارة صناع المسلسل إلى أن القطط لم تتعرض فعلا للتعذيب أو الأذية، وإن المشهد صوّر بإشراف أطباء بيطريين، فإن هذا لم يمنع الجدال حول حساسية مشاهدة صور كهذه، إن بالنسبة إلى المشاهدين البالغين أو خصوصا الأطفال الذين يسهل تأثرهم، مثلما رأى بعض الأصوات المنتقدة.
لا نعرف إن كان أيّ من جهات الإنتاج أو العرض التلفزيونية في العالم العربي، يمتلك مدوّنة واضحة لما يمكن، وما لا يمكن قوله أو عرضه. لا أعتقد بوجود مثل هذه المدوّنات، والأمر الراجح أن تكون الأمور متروكة لتقدير صناع الأعمال التلفزيونية أنفسهم، وهو تقدير قد يطال المسائل السياسية أو الدينية، لكنه لا يعنى بالجانب القيمي والأخلاقي. وهنا لا نعني الأخلاق بنطاقها الاجتماعي الضيق، أي المعيب والخادش، بقدر ما نتحدّث عن الصدق والمصداقية والعدالة والنزاهة في تصوير أفراد أو جماعات أو فئات اجتماعية. وهذا اختبار غالبا ما تسقط فيه الدراما والكوميديا السينمائية والتلفزيونية العربية على السواء.
سبق أن رأينا في حالات كثيرة تصويرا مجحفا بحقّ فئات معينة، منهم مثلا قصار القامة، أو البدناء، أو سمر البشرة، أو أصحاب الهمم
لقد سبق وأن رأينا في حالات كثيرة، وعلى مرّ تاريخ هذه النتاجات العربية، تصويرا مجحفا بحقّ فئات معينة، منهم مثلا قصار القامة، أو البدناء، أو سمر البشرة، أو أصحاب الهمم أو أصحاب اللثغة أو التأتأة، كما نرى في كثير من الأحيان إجحافا أعرض نطاقا بحقّ جنسيات أو ثقافات بعينها. في حلقة أخرى من المسلسل الكوميدي الآنف الذكر نشاهد، مثلا، تشويها واضحا لسيدات ينتمين إلى بلد أوروبي شرقي، حيث يقوم البطل بالسفر إلى ذلك البلد ويأتي من هناك بثلاث حسناوات مقابل 1200 دولار "ثمنا" لهن جميعا. هل فكّر صناع هذه الحلقة بمدى التشويه الذي يلحقونه بأهل هذا البلد؟ هل خطر ببالهم كم يمكن أن يكون تصوير النساء بهذه الطريقة المهينة جارحا للمشاعر؟ وهل يستوجب استدرار الضحك، استخراج أشنع ما في الشخصية الذكورية العربية من صفات وغرائز؟
المشكلة في مثل هذه النتاجات أنها تصوّر ما ليس طبيعيا بوصفه طبيعيا، وما ليس عاديا بوصفه تفصيلا ثانويا، وتغفل أن أولئك النجوم الذين يظهرون في هذه المسلسلات والبرامج، وخصوصا في أدوار فكاهية، هم على نحو ما يمثلون قدوة، وذلك لسهولة دخولهم إلى قلوب المشاهدين، ونيلهم استحسانهم. وبالتالي فإن الأفكار التنميطية التي يطرحونها تصبح في نهاية المطاف قيما سائرة بين الناس. وقد رأينا نجوما كبارا في العالم العربي، منهم مثالا لا حصرا عادل إمام ومحمد سعد ومحمد هنيدي وغيرهم كثر، يقعون في فخّ التنميط مرات ومرات، وذلك تحديدا انطلاقا من الشعور أو الظنّ باعتيادية المسألة ما دام الهدف "بريئا" وهو إضحاك الناس، أي "أناسنا" الذين يفترض أنهم يتشاركون مثل هذه النظرات.
اقرأ أيضا: خريطة مسلسلات رمضان سعوديا وخليجيا وعربيا (2)
في المقابل، ثمة وعي عالمي متزايد بهذه المسائل. وكم رأينا في الغرب من سجالات واحتجاجات أدّت أحيانا إلى إلغاء عرض برامج أو شنّ هجوم كاسح على مؤدّ أو ممثل و"وإلغائه" لأنه قدّم مثلا اليهود أو المسلمين أو السود أو الصينيين أو اليابانيين، أو أصحاب الهمم، أو الأطفال أو الحيوانات، بصورة تجرح المشاعر وتروّج لتصوّرات مسبقة وتكرّس نمطيات تعمل جميعها على زيادة منسوب الكراهية ومشاعر التمييز والعنصرية، فضلا عن خلق هوّة لا تني تتسع بين الثقافات.
في المنطقة العربية، وفي حين أن هناك قوانين ناظمة لهذه المسائل في عدد من الدول، إلا أنه حين يتعلق الأمر بالنتاجات الإبداعية والفنية، فإن هناك شبه منطقة عمياء، يغذيها الغياب التام للمدونات الأخلاقية، وغياب المحاسبة، سواء المؤسساتية أو الشعبية، والأهم من ذلك غياب المرجعية شبه التام. فالنتاجات التلفزيونية، خصوصا المكرسة للعرض خلال شهر رمضان، تخضع للسرعة ولمبدأ التنافس، والإنتاجات تمتد على مساحات جغرافية واسعة، وأحيانا تعرض الحلقات بعد يوم أو خلال ساعات من إنجازها، وهذا يجعل من شبه المستحيل تفادي وقوعها في المطبّات المذكورة آنفا قبل عرضها.
المشكلة في مثل هذه النتاجات أنها تصوّر ما ليس طبيعيا بوصفه طبيعيا، وما ليس عاديا بوصفه تفصيلا ثانويا
الحلّ بالطبع ليس في الرقابة، التي يبدو أنها مشغولة في نسختها العربية، بمتابعة ما قد يخدش المشاعر السياسية والدينية فحسب، إلا أنه يكمن أولا وأخيرا لدى الجهات المنتجة والعارضة، والتي لا يجوز أن تواصل عملها دون تفكير متمهّل ومتأنّ بالقيم التي تعكسها، وتبقى المشكلة الأعمق من ذلك، وهي غياب العرب عن ساحات النقاش القيمية بصورة عامة، إذ أن مثل هذه النقاشات تتطلب قدرا من الاستقرار والتراكم، وساحاتها لا تقف عند حدود الشاشات بكبيرها وصغيرها، بل تمتدّ لتشمل صفوف المدارس وقاعات الجامعات، وأعمال التفكير المختلفة، ورصد اتجاهات الرأي العامة وتعيين مشكلاتها، ناهيك عن البيئات المنزلية والاجتماعية المختلفة التي تنتج اتجاهات القيم، لاسيما على صعيد اللغة والتعبير، حتى لتصبح الشاشات (والتواصل الاجتماعي) في كثير من الأحيان مرآة لما يعتمل في المجتمعات نفسها من تصوّرات واتجاهات تفكير، فكيف لنا أن نطلب من ممثل كوميدي رسم خيط فاصل بين الخطأ والصواب، والجائز وغير الجائز، وكلّ ما حوله يدفن هذا الخط تحت غبار التجارب المعيشة والأفكار النمطية المتراكمة.