في كل ذكرى سنوية جديدة لانطلاق الاحتجاجات السورية قبل 13 عاما، يقف السوريون مطولا عند السنة الأولى وما قبلها، والمظاهرات الأولى وما بعدها. ربما لأن كل ما يتبادر للذهن بعد مرور تلك السنة، هو محاولة عابثة وموجعة لتفكيك اللغز السوري وتعقيداته المتشابكة بين القوى الإقليمية والدولية.
ربما يشكل الفراق بين الدول الغربية والعربية إزاء التعاطي مع دمشق، آخر تجليات ذلك اللغز. الموقف الموحد والراسخ قبل عقد من الزمن، بات مواقف مختلفة ومتفاوتة الأبعاد.
بالتزامن مع 15 مارس/آذار، اليوم الرسمي لاندلاع الاحتجاجات، جرت اتصالات وزيارات عربية وأرسلت برقيات رفيعة إلى الرئيس السوري بشار الأسد بمناسبة بدء شهر رمضان المبارك. تتلخص الرسالة السياسية بأن الدول العربية التي قررت في شهر مايو/أيار الماضي إعادة دمشق إلى الجامعة العربية بعد عقد من تجميد عضويتها، ودعوة الأسد إلى القمة العربية في جدة، لا تزال مستمرة في خيار التطبيع رغم المطالب والتحفظات والخيبات التي خلفها عدم التزام دمشق بـ"خريطة الطريقة" المشروطة التي أقرتها الدول العربية لاستئناف العلاقات، وشملت عناوين كثيرة أبرزها: التعاون في محاربة المخدرات، واتخاذ خطوات لإعادة اللاجئين، والتعاون بشكل إيجابي في المسار السياسي واللجنة الدستورية، إضافة إلى إبعاد إيران وتنظيماتها عن الحدود الجنوبية مع الأردن وخط فك الاشتباك مع إسرائيل.
في المقابل، أعلنت الدول الغربية الكبرى والتي تُعرف بـ"الرباعية" (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) في الذكرى الثالثة عشرة، عن موقف مناقض لهذا المسار. حيث جددت تمسكها بـ"اللاءات الثلاث": "لا للتطبيع مع نظام الأسد، لا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، لا لرفع العقوبات، قبل تحقيق تقدم جوهري في المسار السياسي وفق القرار الدولي 2254". كما تحدثت عن المساءلة والمحاسبة والسلاح الكيماوي وضرورة عودة اللاجئين.
السبب غير المعلن لمقاطعة العرب اجتماع باريس، أن الفجوة تتسع بين الموقفين العربي والغربي إزاء سوريا وإيران
أما عن التفاصيل غير المعلنة، فقد سعت فرنسا إلى عقد اجتماع مشترك بين "الرباعية الغربية" ودول عربية رئيسة في باريس قبل أسابيع، لكن الدول العربية رفضت حضور الاجتماع الذي يبحث المسار السياسي ومنعكسات حرب غزة والوجود الإيراني والمساعدات الإنسانية. المبرر العلني للرفض العربي جاء لأن اجتماع باريس كان يجب أن يُعقد بعد اجتماع اللجنة الوزارية العربية لمتابعة تنفيذ "خريطة الطريق". الدول العربية ذاتها التي رفضت حضور اجتماع باريس، لم توافق ببساطة على عقد اللجنة الوزارية العربية مع وزير الخارجية فيصل المقداد على هامش الاجتماع الوزاري العربي الأخير في القاهرة، بسبب "الخيبة" من سلوك دمشق إزاء ملفات المخدرات واللاجئين واللجنة الدستورية.
وهذا يعني أن السبب غير المعلن لمقاطعة العرب اجتماع باريس، أن الفجوة تتسع بين الموقفين العربي والغربي إزاء سوريا وإيران، وأن الأمر لم يعد يقع ضمن توزيع الأدوار بين الكتلتين.
لا شك أن حرب أوكرانيا واتخاذ عدد من الدول العربية موقفا حياديا بين روسيا والغرب ثم حرب غزة والغضب العربي من الموقف الغربي، زادا من الفجوة بين مواقف الدول العربية والغربية من الملف السوري، تلك الدول التي كانت تتبنى موقفا متطابقا قبل عقد.
من المفارقات السورية، ان فصائل معارضة كانت تتلقى دعما من "سي آي إيه" حاربت فصائل أخرى تلقت دعما عسكريا من "البنتاغون"
هذا ليس التناقض الوحيد في سوريا. هناك تناقضات كثيرة، وهنا بعضها: أميركا التي تصنف "حزب العمال الكردستاني" تنظيما إرهابيا، تتعاون مع "وحدات حماية الشعب" الكردية المؤيدة لـه شمال شرقي سوريا، في الوقت الذي تعتبر فيه تركيا، حليفتها في "حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، هذه "الوحدات" امتدادا لـ"العمال" المصنف "إرهابيا" وتحاربه. أيضا، "هيئة تحرير الشام" التي تصنفها دول غربية ومجلس الأمن تنظيما إرهابيا، تتلقى مساعدات أممية من دول غربية. المفارقة وصلت في وقت من الأوقات إلى أن فصائل سورية تتلقى دعما من "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية (سي آي إيه) لتحارب عبر ذلك الدعم فصائل أخرى تتلقى دعما عسكريا من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
ومن المفارقات الغريبة في سوريا أيضا، أن دولا عربية وقعت الاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل، تتعاون وتدعم الحكومة السورية المتحالفة مع إيران والتي تعمل ليل نهار لمنع التطبيع العربي وإفشال هذه الاتفاقات. أيضا، لا تفعل السلطات السورية الكثير لمنع إسرائيل من استهداف قادة حليفتها إيران في دمشق وفي مناطق سيطرتها. وبوتين صديق اسرائيل منذ طفولته، لاتشوش صواريخه وراداراته المتطورة في سوريا، على غارات إسرائيل ضد "خبراء" ايران، شريكته في حرب أوكرانيا، في شوارع المدن السورية. بوتينن أيضا، منع دمشق من شن عملية عسكرية في إدلب، كي لايغضب "صديقه" اردوغان.
سوريا هي المكان الوحيد في العالم، الذي تتقاسم فيه 5 جيوش ثلاث "دويلات" في دولة واحدة
ليس صعبا إيجاد تفسيرات للغز السوري. لكن التفسير الأساسي أن الأراضي السورية هي المكان الوحيد في العالم الذي تتجاور فيه بشكل مباشر ووجها لوجه القوى الدولية الكبرى واللاعبون الإقليميون البارزون الفاعلون في مجلس الأمن الدولي و"مجموعة العشرين".
إنه المكان الوحيد الذي تتجاور فيه أرضا وجوا، جيوش أميركا (وبريطانيا وفرنسا) وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل وليس فقط عبر الوكلاء والحلفاء. المكان الوحيد الذي تتقاسم فيه هذه الجيوش ثلاث "دويلات" في دولة واحدة هجر نصف شعبها، وتجبر هذه الجيوش على التنسيق في سمائها، لطلعات طائراتها المقاتلة والقاذفة... فوق رؤوس السوريين. أنها أوجاع التناقضات والتفاهمات بين مصالح الاخرين.