يندرج قرار مجلس النواب الأميركي حظر تطبيق "تيك توك" في إطار الحرب التجارية المشتعلة بين الولايات المتحدة والصين، وفي سياق حساسية أمن البيانات لكل دولة ومواطنيها، والمعاملة بالمثل في هذا الشأن، وهي قضية مفتوحة ولا تزال تداعياتها غير منظورة لا سيما في حرب الرقائق وأشباه الموصلات التي ينتظر ان تستعر أكثر فأكثر في الأشهر والسنوات المقبلة بعد جلاء نتائج الانتخابات الأميركية في الخريف المقبل.
واهمٌ من يظن أن هذا القرار السريع والمتسرع، والمتزامن مع التوافق النادر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بريء من أنهار الدماء الجارية في غزة. ليس أدل على ذلك، من التصويت الكاسح ضد التطبيق (أيد مشروع القانون 352 نائبا وعارضه 65 فقط)، متجاوزين ما يراه الخبراء الاستراتيجيون في الحزب الديمقراطي من أن "تيك توك" مفيد لاستقطاب الشباب الذين يميلون إلى الحزب، ويحثّهم على التبرع والتطوع في الحملات الانتخابية.
تقول "الإيكونوميست"، التي لا تنشر كلماتها جزافا، "إن الاقتراح اكتسب زخماً جزئياً نتيجة القلق في شأن تعامل التطبيق مع المعلومات المضللة والمحتوى المعادي للسامية في أعقاب هجوم "حماس" على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول. وفشلت جهود "تيك توك" لتعطيل مشروع القانون في شكل ذريع. في 6 مارس/آذار، أرسلت إشعاراً يشجع المستخدمين على الضغط على الكونغرس لعدم تمرير التشريع. ويبدو أن ذلك جاء بنتائج عكسية: اقتنع بعض المشرعين المترددين بأن "تيك توك" له بالفعل تأثير في الناخبين. وفي الجلسة، أيد 352 مشرعاً مشروع القانون؛ وعارضه 65 فقط".
"تيك توك" الأسوأ لإسرائيل
أما في الواقع، فقد استُخدِم الإشعار الذي أرسلته "تيك توك" ذريعة لاتهام التطبيق بالتلاعب في آراء المستخدمين، إذ إنه ليس إجراء استثنائيا، بل هو أسلوب مشترك ومعهود للتواصل مع المستخدمين، تتبعه كل وسائل التواصل الاجتماعي بلا استثناء. الحقيقة أن الولايات المتحدة تحرص على أن تكون أي منصة أو برمجيات تكنولوجية شعبية على أرضها منضوية تحت "وادي السيليكون"، وتحت سيطرة الاستخبارات الأميركية أو وكالة الأمن القومي التي لطالما تلقت دعما في هذا الإطار من شركات مثل "غوغل" و"مايكروسوفت" و"إيه. أو. أل." و"فايسبوك" و"سكايب" وغيرها لجمع البيانات والتلاعب بها أحيانا وقرصنتها. وليست هذه هي الحال مع "تيك توك" بالطبع.
وسائل التواصل ولا سيما "تيك توك"، تمكنت من إثارة اهتمام الرأي العام بغزة، وما تلا ذلك من تنظيم للتظاهرات المناهضة التي أحرجت إسرائيل، وقبلها الولايات المتحدة، بسبب حجم المشاركة الواسعة فيها، وكذلك انتشارها
تنفق الحكومة الاسرائيلية مئات ملايين الدولارات، على وسائل التواصل الاجتماعي تحديدا، منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة، وقد هالها حجم معارضة الشباب في أوروبا والولايات المتحدة للممارسات الإسرائيلية في غزة، عبر هذه الوسائل تحديدا، ولا سيما "تيك توك"، وتمكنهم من إثارة اهتمام الرأي العام، وما تلا ذلك من تنظيم للتظاهرات المناهضة التي أحرجت إسرائيل، وقبلها الولايات المتحدة، بسبب حجم المشاركة الواسعة فيها، وكذلك انتشارها في مختلف الدول والقارات.
بعد مرور شهرين على هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول وانطلاق الحرب، حصد هاشتاغ boycottisrael# (أي دعوة لمقاطعة إسرائيل) نحو 340 مليون مشاهدة على "تيك توك"، وBDS# (مقاطعة، سحب استثمارات، عقوبات) ما لا يقل عن ثلاثة مليارات مشاهدة، كما تؤكد صحيفة "واشنطن بوست"، على الرغم من أن الهاشتاغ الأخير يستحوذ على بعض المنشورات حول مواضيع أخرى. وفي يناير/كانون الثاني، كان هناك ما يقرب من نصف مليون منشور يحمل الوسم boycottisrael# و887 ألف منشور يحمل الوسم BDS# على "إنستغرام".
تهمة "معاداة السامية" جاهزة
لقد تصدرت الاتحادات اليهودية في أميركا الشمالية و"رابطة مكافحة التشهير" المثيرة للجدال، وهي واحدة من اقوى جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، حملة دعم تشريع حظر "تيك توك" في البلاد، كما تؤكد صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".
يدرك مجتمعنا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المحرك الرئيس لمعاداة السامية وأن "تيك توك" هو أسوأ مخالف على الإطلاق
الاتحادات واللوبيات اليهودية في أميركا الشمالية
وطالبت الاتحادات والرابطة بالمصادقة على مشروع قانون الحظر، ووجهت رسالة رسمية في هذا الخصوص الى لجنة الطاقة والتجارة في الكونغرس، نشرتها وسائل الاعلام العبرية. ودافعت الاتحادات اليهودية والرابطة عن مشروع القانون، واتهمت في رسالتها التطبيق بـ"السماح بانتشار معاداة السامية والمحتوى المعادي لإسرائيل"، وقالت: "يدرك مجتمعنا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المحرك الرئيس لمعاداة السامية وأن "تيك توك" هو أسوأ مخالف على الإطلاق".
واعتبرت الاتحادات ان صياغة مشروع القانون تمت بعناية، لضمان عدم تعارضه مع التعديل الأول من الدستور الفيديرالي، مما يفند المخاوف في شأن الرقابة الحكومية على وسائل التواصل الاجتماعي.
ووجدت شركة "تيك توك" نفسها منذ بداية الحرب على غزة، في مواجهة تيارين متحالفين موضوعيا، الأول يدعو إلى فرض رقابة وتنظيم اكثر صرامة على شركات التكنولوجيا الصينية العاملة على الأراضي الاميركية، بسبب مخاوف على الأمن القومي والشكوك بخصوص استعمال بيانات اكثر من 170 مليون مستخدم لهذه المنصة "للتجسس والتأثير في مجريات الانتخابات المقبلة"، والثاني "لوبي" جماعات الضغط القوية المؤيدة لإسرائيل الذي يتهم "تيك توك" بمعاداة السامية.
خطيئة "تيك توك" الكبرى
بالفعل، فقد نجح معارضو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في دعوتهم إلى مقاطعة الشركات التي يزعمون أنها تدعم السياسات الإسرائيلية، واجتذبت ملايين المشاهدات على "تيك توك"، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث التزم عملاء شركات مثل "ستاربكس" و"ماكدونالدز" مثلا مقاطعة خدماتها ومنتجاتها مناصرة للحملة، وخصوصا بعدما أعلنت هذه الشركات في إسرائيل استعدادها لتقديم وجبات مجانية إلى الجنود الإسرائيليين.
فلا عجب إذن أن يحظى قرار الحظر الأميركي للتطبيق بدعم الاتحاد الفيديرالي اليهودي في أميركا الشمالية، وخير دليل أيضا على مدى تأثر وتأثير الشباب الأميركي، عبر "تيك توك" الذي بلغت عائداته 16 مليار دولار قبيل التهديد بالحظر، أن الرئيس الأميركي جو بايدن شخصيا، وقبل أسابيع فقط، فتح حسابا في التطبيق في محاولة منه لكسب تأييد هؤلاء الشباب الذين خلافا للأجيال السابقة، لا يستقون معلوماتهم من وسائل الإعلام التقليدية كالصحف ونشرات الأخبار عبر التلفاز، بل يكاد يكون حصرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المصادر الموجودة على شبكة الانترنت.
لا شك أن خطيئة "تيك توك" الكبرى هي قدرته الفائقة والمؤثرة على إسماع أصوات الضحايا والمجازر في غزة الى حد كبير
لا شك أن قدرة التطبيق الفائقة والمؤثرة على إسماع أصوات الضحايا والمجازر في غزة، الى حد كبير، كان خطيئة "تيك توك" الكبرى، وهذا ما لا يناسب الغرب الذي لطالما اعتمد سياسة التعتيم تجاه مواطنيه، في شأن القضية الفلسطينية خصوصا، ونجح في بث الصورة التي تناسبه وتضمن الحفاظ على ولائهم وتغذية الكراهية تجاه الجانب الآخر من الكوكب.
معركة إسكات الأصوات
إنها معركة إسكات الأصوات الحرة بلا منازع، ولنتذكر كيف تعاملت إسرائيل ومن خلفها أميركا وأوروبا وكل شركات التكنولوجيا العملاقة، مع مؤسس "قمة الويب" في برشلونة، ورئيسها التنفيذي، الإيرلندي بادي كوسغرايف، ودفعه إلى الاستقالة في اللحظة الأخيرة قبل انعقاد القمة في أكتوبر المنصرم، على خلفية تعليقات أدلى بها في شأن الحرب بين إسرائيل و"حماس".
في الواقع، بدأت الحرب التكنولوجية على غزة وجهود تعمية الحقيقة، تهيئة لممارسة الكذب والتضليل، منذ أن قصفت إسرائيل بشكل متعمد منشآت الاتصالات الفلسطينية في القطاع بهدف تعطيل خدمات الاتصال والانترنت أو التشويش عليها، منعا لنقل مجريات الحرب الإسرائيلية على القطاع والهجمات الإسرائيلية على أهداف فلسطينية في الضفة، بالتوازي مع تغطية إعلامية غربية منحازة إلى الدولة العبرية وغير منصفة للفلسطينيين.
لا شك أيضا، أن الولايات المتحدة وجدت نفسها أمام أحد الصادرات الصينية في مجال التكنولوجيا، المتفلت من عقاله، ولم تستطع فرض قيود عليه، كما فعلت في شأن الصناعات التكنولوجية الأخرى، وفي مقدمها صناعة الرقائق المشغلة للذكاء الاصطناعي.
ذهلت أميركا بمدى سرعة نجاح "تيك توك" على أراضيها، من دون أن يكون لها القدرة على السيطرة على هذا النجاح أو المحتوى الذي يصل إلى عقول الشباب الأميركي
والأهم، أن الولايات المتحدة ذهلت بمدى سرعة نجاح "تيك توك" على أراضيها، من دون أن يكون لها القدرة على السيطرة على هذا النجاح أو المحتوى الذي يصل إلى عقول الشباب الأميركي المتعطش إلى الرأي الآخر والحقيقة.
لعل النجاح الحقيقي الذي حققه "تيك توك"، هو شل قدرة أميركا على تلميع صورة إسرائيل كعادتها، وهذا يشكل منطلقا لكل خططها واستراتيجياتها وقرارتها، سياسية أكانت أم اقتصادية أم تكنولوجية. لكن، مع انفتاح الشباب والوعي الذي أبداه عبر المنصة الصينية المنشأ، قد تواجه الولايات المتحدة بسبب قرارها الأخير بروز "تيك توكات" أخرى كثيرة من صنع أميركي، لن تحظى بترف إلغائها أو التخلص منها، هي التي تروج لنفسها بأنها بلاد الحرية و"الخطاب الحر"!