الاقتصاد الروسي يتحدى المتشائمين مرة أخرى

لجم التضخم وعودة الشركات وتجاوز العقوبات مع سلاسل إمداد "صديقة" مستدامة

Shutterstock
Shutterstock
الروبل الروسي على خلفية رسم بياني لتغيرات سعر الصرف

الاقتصاد الروسي يتحدى المتشائمين مرة أخرى

في السنتين المنصرمتين منذ غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا، تحدى الاقتصاد الروسي المتشائمين مرارا وتكرارا. لم يحدث الانهيار المالي المتوقع على نطاق واسع في ربيع 2022. صحيح أن الاقتصاد دخل في حالة ركود، لكنها كانت أقل حدة من المتوقع ولم تدم طويلا. وكان التضخم الفزاعة الأخيرة. ففي العام الماضي ارتفعت الأسعار بسرعة كبيرة، واعتقد خبراء الاقتصاد أن الأسعار يمكن أن تخرج عن السيطرة. حتى أن السيد بوتين شعر بالقلق، فحث في فبراير/شباط المسؤولين على إيلاء ارتفاع الأسعار "اهتماما خاصا".

لكن يبدو أن الاقتصاد الروسي يثبت مرة أخرى خطأ المتشائمين. تُظهر المؤشرات أن الأسعار ارتفعت نحو 0.6 في المئة فقط على أساس شهري في فبراير/شباط، بعدما كانت 1.1 في المئة في نهاية العام الماضي. وربما لن يرتفع التضخم على أساس سنوي، بعدما بلغ 7.5 في المئة في نوفمبر/تشرين الثاني. ويتوقع العديد من المحللين انخفاض المعدل إلى 4 في المئة فقط عما قريب، كما استقرت توقعات الأسر في شأن التضخم المستقبلي. أما الانتخابات الرئاسية الروسية فإن نتيجتها محسومة مسبقا. ولو كانت الانتخابات تنافسية، فإن هذه الأرقام لن تضر بالسيد بوتين.

لجم التضخم

وكان التضخم الروسي شهد ارتفاعا كبيرا في العام المنصرم نتيجة الارتفاع الشديد في الإنفاق الحكومي، الذي فاق ما أنفق خلال جائحة "كوفيد-19". ومع اشتداد عزيمة السيد بوتين في غزوه لأوكرانيا، زاد الإنفاق على كل شيء من معدات النقل والأسلحة وصولاً إلى رواتب الجنود. فارتفعت النفقات الإجمالية للحكومة بنسبة 8 في المئة بالقيمة الحقيقية. وفاق ارتفاع الطلب على السلع والخدمات قدرة الاقتصاد على توفيرها، مما دفع البائعين إلى رفع الأسعار. وصار من الصعب جدا العثور على عمال، لا سيما بسبب استدعاء مئات الآلاف الى الخدمة العسكرية وفرار عشرات الآلاف من البلاد. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، كانت الأجور الاسمية ترتفع بوتيرة سنوية بنسبة 18 في المئة، مقارنة بـ 11 في المئة في بداية السنة. وأدى ذلك إلى تضخم أسعار الخدمات للقطاعات التي تحتاج الى كثير من العمالة مثل الرعاية الصحية والضيافة.

شجعت أسعار الفائدة المرتفعة الروس على إيداع الأموال في حسابات التوفير بدلاً من إنفاقها، وأدت السياسة النقدية المتشددة إلى الحد من الإقراض

إلى من يرجع الفضل في التحول، بعد تحسن المؤشرات من جديد؟ وزارة المالية الروسية تعزوه إليها. ففي العام الماضي ضغط مسؤولوها بنجاح لفرض ضوابط على سعر الصرف، تلزم المصدرين إيداع العملات الأجنبية في النظام المالي الروسي. وربما أدى هذا الإجراء إلى دعم الروبل الروسي، الذي ارتفع في الأشهر الأخيرة، فانخفضت أسعار الواردات.

يرى المسؤولون في البنك المركزي أن نظراءهم في وزارة المالية يفتقرون إلى المعرفة في الاقتصاد ويعبثون في الأسواق على مسؤوليتهم. ويعتقد هؤلاء المسؤولون أن الفضل يعود إلى سياستهم في تباطؤ التضخم - التي رفعت أسعار الفائدة أكثر من الضعف منذ يوليو/تموز 2023 - وهم محقون على الأرجح. فقد شجعت أسعار الفائدة المرتفعة الروس على إيداع الأموال في حسابات التوفير بدلاً من إنفاقها. وأدت السياسة النقدية الأشد صرامة إلى الحد من الإقراض. ففي ديسمبر/كانون الأول، نما الإقراض للأفراد بنسبة 0.6 في المئة شهريا، بعدما كان 2 في المئة في معظم سنة 2023.

Shutterstock
موسكو عند الغروب

لم يتخذ سوى عدد قليل من البنوك المركزية الأخرى إجراءات صارمة كهذه. ومع ذلك يبدو أن روسيا لا تزال متجهة نحو "هبوط آمن"، يتباطأ فيه التضخم من دون سحق الاقتصاد. وينسجم أداء الاقتصاد الآن مع اتجاهه قبل الغزو، إذ زاد نمو إجمالي الناتج المحلي بالقيم الحقيقية على 3 في المئة في العام الماضي.

انخفاض معدل إغلاق الشركات

ولا تزال البطالة عند مستوى منخفض قياسي. والأدلة على معاناة الشركات قليلة، بل إن معدل إغلاق الشركات انخفض أخيرا إلى أدنى مستوى له في ثماني سنوات. وتأمل بورصة موسكو أن تشهد أكثر من 20 طرحا أوليا للاكتتاب العام في هذه السنة، بعدما كانت 9 في السنة الماضية. كما أن أحدث البيانات "الفورية" عن النشاط الاقتصادي قوية بقدر معقول. وتبدو التوقعات التي تحظى بإجماع في شأن نمو الناتج المحلي الإجمالي في السنة الجارية بنسبة 1.7 في المئة متشائمة للغاية.

أنعش التحايل على العقوبات الاقتصاد أيضا. وأشار البنك المركزي في تقرير حديث إلى أن المنشآت الإنتاجية الروسية التي كان يمتلكها غربيون سابقا قد أعادت فتح أبوابها تحت إدارة جديدة

إن قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود ناتجة جزئيا من التحفيز السابق. ففي السنوات الأخيرة، راكمت الشركات والأسر أرصدة نقدية كبيرة، مما يسمح لها بمواصلة الإنفاق حتى في مواجهة التضخم المرتفع، وتجنب التخلف عن السداد في مواجهة ارتفاع تكاليف الاقتراض. ومثلما هي الحال في أنحاء أخرى من العالم، أدى انخفاض الطلب على العمالة في الغالب إلى انخفاض في الوظائف الشاغرة بدلاً من انخفاض عدد الموظفين.

وتشير أرقام مستمدة من موقع التوظيف "هيد هنتر" (HeadHunter) إلى أن نسبة الوظائف الشاغرة إلى الباحثين عن عمل قد توقفت عن الارتفاع. وبعدما واجه أصحاب العمل صعوبة في العثور على عمال في الأشهر الأخيرة، فإنهم يترددون في تسريح الموظفين إلا في حالة الضرورة القصوى. 

تجاوز العقوبات وسلاسل إمداد "صديقة"

​أنعش التحايل على العقوبات الاقتصاد أيضا. وأشار البنك المركزي في تقرير حديث إلى أن المنشآت الإنتاجية الروسية التي كان يمتلكها غربيون سابقا قد أعادت فتح أبوابها تحت إدارة جديدة. في بداية الحرب، جعلت العقوبات حصول الشركات الروسية على مدخلات أمرا صعبا، مما أدى إلى تأخير الإنتاج. أما الآن، فقد أنشأت الشركات سلاسل إمداد دائمة مع دول "صديقة". ويأتي ما يزيد على نصف واردات السلع من الصين، وهو ضعف ما كانت عليه قبل الغزو.

ومع ترسخ العلاقات التجارية الجديدة، تجرأ المصدرون الروس على رفع الأسعار، مما رفع الإيرادات والأرباح. على سبيل المثل، انخفض الحسم على النفط الذي تعرضه روسيا على العملاء الصينيين من أكثر من 10 في المئة في أوائل سنة 2022 إلى نحو 5 في المئة اليوم. ولا يقتصر الأمر على النفط فحسب. فالسيد بوتين يتفاخر في شأن ارتفاع صادرات الآيس كريم إلى الصين، قائلا في الأسبوع الماضي، "ضيّفت صديقي الرئيس شي جين بنغ"، بعضا منها.

للمزيد إقرأ: الانتخابات الروسية... بوتين يحشد للوصول إلى "90 في المئة"

يعلم كل روسي أن التضخم لا يهزم تماما. ولا يزال المسؤولون في البنك المركزي قلقين من أن تظل توقعات التضخم مرتفعة للغاية. ويكمن القلق في احتمال انخفاض قيمة الروبل، إما لانخفاض أسعار النفط، أو لفرض حزمة أخرى من العقوبات الجدية، أو في حال فقدت الصين اهتمامها بدعم السيد بوتين، وهذه مخاوف جدية. على الرغم من كل ذلك، فإن اقتصاد الدولة المنبوذة عالميا عاد إلى المسار الصحيح من جديد.

font change

مقالات ذات صلة