"اللاءات الأربع" التي تمخضت عنها القمة السابعة للدول المنتجة للغاز في العاصمة الجزائرية أخيرا، تستحق التأمل والتحليل والتفكير في مدى قابلية تنفيذها على أرض الواقع، لا سيما أن هذه اللاءات تجمع في جوهرها بين الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية.
أولى اللاءات التي وردت ضمن وثيقة "إعلان الجزائر" والتي اطلعت عليها "المجلة"، "لا لكل القيود الاقتصادية الأحادية الجانب المتخذة من دون الموافقة المسبقة لمجلس الأمن، ولأي تطبيق للقوانين والتنظيمات الوطنية خارج الحدود ضد الدول الأعضاء في المنتدى"، و"لا لأي استخدام التغير المناخي كمبرر لاتخاذ قرارات ومباشرة إجراءات من شأنها عرقلة الاستثمارات في مشاريع الغاز الطبيعي، ولاستحداث أي وسائل للتمييز الاعتباطي أو أي قيود تخالف بشكل مباشر قواعد التجارة الدولية".
أقر المنتدى بالدور الأساسي للغاز الطبيعي في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وتلبية الاحتياجات المتزايدة للطاقة في العالم، وضمان ولوج عالمي إلى طاقة في متناول الجميع تكون موثوقا فيها ومستدامة وعصرية.
"لا" للتدخلات المصطنعة في أسواق الغاز، ووضع سقف للأسعار والتضييق على الأسواق والاستثمارات بحجة المناخ
علي شقنان، أستاذ في جامعة الأغواط الجزائرية
ويبدو أن الدول المنتجة للغاز قد بعثت برسائل مباشرة للغاية إلى الدول التي تضع "الغاز" في قفص الاتهام وتصنفه في خانة الأعداء الأكثر فتكا بالمناخ. في هذا المجال، يقول الأستاذ في جامعة الأغواط الجزائرية والخبير الدولي في الإنتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، علي شقنان لـ"المجلة": "الجميع يدرك اليوم أن الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، أشهرت ورقة الآثار السلبية للغاز الطبيعي، بحجة المناخ، من أجل عرقلة الاستثمارات وكبحها، على الرغم من أن الغاز أقل ضررا على البيئة ويصنف في خانة أصدقائها لأنه يعتبر المصدر الأحفوري الوحيد لتحقيق انتقال طاقوي متجدد وآمن".
رسائل مباشرة وصريحة
"لاء"، ورسالة أخرى حملت في طياتها جملة من الأبعاد والدلالات العملية، تتعلق بالرفض القاطع للدول المنتجة للغاز لسياسة وضع سقف لأسعار الغاز، وهذا ما اعتبره خبراء ومسؤولون في مجال الطاقة ردا صريحا ومباشرا على التحركات التي بادرت بها دول أوروبية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وبلوغ هذا المورد للطاقة مستويات تاريخية غير مسبوقة إطلاقا.
وفي هذا الاطار تؤكد وثيقة "إعلان الجزائر": "رفضنا لأي تدخلات مصطنعة في أسواق الغاز الطبيعي، بما فيها محاولات التأثير على آليات وضع الأسعار ووظائف إدارة الأخطار في الأسواق إلى جانب تسقيف الأسعار بدوافع سياسية، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم التضييق على الأسواق وتثبيط الاستثمارات اللازمة لتلبية الطلب العالمي المتزايد على الطاقة".
ويشرح الأستاذ المحاضر في جامعة مستغانم الجزائرية والخبير الاقتصادي بوحوص بوشيخي، موقف الدول المنتجة للغاز بالقول إنها "لا تطالب بتحديد سقف للأسعار، وإنما بأسعار عادلة تخدم المنتج والمستهلك وتغطي التكاليف المباشرة وغير المباشرة في مقابل تحقيق فوائد، أي أنها ترفض أن يكون السقف أقل بكثير من السعر العادل وتطالب بهامش ربح مقبول وعادل".
وبالنسبة الى الخبير الدولي في الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، علي شقنان، فإن "الدول المنتجة للغاز تسعى جاهدة لتطبيق مبدأ توازن الأسعار ومراعاة العلاقة المصلحية بين المنتج والمستهلك، ولا يخفى علينا اليوم أن معظم الدول المنتجة لهذه المادة الحيوية تسعى جاهدة إلى التوظيف الأمثل للغاز ومداخيله في رفع مستوى التنمية"، مضيفا أن "تسقيف الأسعار بناءً على دوافع سياسية له آثار سلبية مباشرة على السوق لأنه يعيق الاستثمارات ويكبحها، وبالتالي لا يستجيب للطلبات العالمية على الطاقة المتزايدة كل سنة مما يؤدي الى اختلاف كبير في الطلب والعرض".
روسيا وقطر والإمارات وإيران وغيرها من الدول الآسيوية أو في أميركا اللاتنية، ستبقي أعينها مفتوحة على صعود مؤشر حقول الغاز في شمال وغرب أفريقيا كمنافس قوي محتمل على السوق الأوروبي
عبد الله ولد بونا، أستاذ و باحث مورتاني
يؤيده في الرأي الخبير الاقتصادي البروفسور رمضاني لعلا، ويقول في حديث مع "المجلة" إن "قرار عدم قبول فكرة وضع سقف للأسعار وتدعيمها مهما كانت الظروف جاء ردا على طلب تقدم به الأوروبيون في 19 ديسمبر/كانون الأول 2022، وهو الطلب الذي رفضته الجزائر رفضا قاطعا نظرا إلى تأثيراته المباشرة على الاستثمارات في المنبع واقترحت ضرورة إبقاء الأسواق حرة لمواصلة الاستثمارات والإنجازات في المنبع".
ويلفت البروفسور رمضاني لعلا إلى أن "عدم وضع سقف لأسعار الغاز سيساهم في تدعيم الاستثمارات وكذلك تقليل حدة التضخم في منطقة اليورو، لأن ارتفاع أسعار الطاقة سينعكس سلبا على الشركات الأوروبية"، ويعتبر أن "وضع سقف لأسعار الغاز مخالف لقوانين السوق الحر ويفرض قيودا على تجار الغاز في وقت ينادي الأوروبيون بتوسيع نطاق السوق الحرة".
ولذلك رفعت الدول المنتجة لصالح عقود الغاز الطويلة الأمد، بالإضافة إلى تسعير الغاز الطبيعي استنادا إلى مؤشر البترول والمنتجات البترولية لضمان ثبات الاستثمارات في تطوير موارد الغاز الطبيعي.
هل يمكن تحقيق التوازن؟
السؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن تحقيق توازن السوق، تحقيق التوازن بين المشترين والبائعين؟
ما يذهب إليه الباحث الموريتاني الأستاذ عبد الله ولد بونا، في قراءة مطولة عنوانها "حاضر ومستقبل منتدى الدول المصدرة للغاز من خلال أبرز النقاط الواردة في إعلان الجزائر" يوحي بـ"صعوبة تطبيق هذا البند على أرض الواقع لأكثر من عامل استراتيجي وتجاري".
— اقتصاد الشرق - الطاقة (@asharqenergy) March 3, 2024
يتمثل العامل الاول في "تفاوت الدول المستهلكة والمستثمرة والمنتجة للغاز في دورها في سوق العرض والطلب والقدرة الإنتاجية والقدرات التخزينية، وهو ما يفرض معادلات متغيرة في سوق الغاز الطبيعي، إضافة الى اختلاف التكلفة والقرب والبعد من الأسواق الاستهلاكية، وكل ذلك يجعل المنافسة حتمية في هذا السوق حتى بين دول المنتدى نفسها".
وفي رأيه أن "الدول المتقدمة في الحضور في سوق الغاز العالمي كروسيا وقطر والإمارات وإيران وغيرها من الدول الآسيوية أو دول أميركا اللاتنية وغيرها، ستبقي أعينها مفتوحة على صعود مؤشر حقول الغاز في شمال وغرب أفريقيا كمنافس قوي محتمل على السوق الأوروبي والبريطاني بل والأميركي ذاته".
من المتوقع تبني الدول المنتجة للغاز مقاربة الجزائر التي أصبحت مرجعا اليوم، والتي تقوم على العقود المتوسطة والطويلة الأجل مع ضمان الأسعار العادلة
علي شقيان، خبير دولي في الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة
ويتطلب الوضع الحالي، بحسب الخبير الدولي في الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، علي شقيان، "التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء لتحقيق إجماع حول الآليات والميكانيزمات وفق قوانين العرض والطلب التي تنظم وتؤطر العلاقة بين الموردين والمستهلكين مع ضبط العوامل المؤثرة في العرض والطلب، مع الأخذ في الحسبان التحديات الكبرى التي تواجه أسواق الغاز العالمية".
هنا يشير علي شقيان إلى "الحرب الروسية – الأوكرانية 2022 المستمرة إلى يومنا هذا والتي قلبت موازين أسواق النفط والغاز وأثرت على أقوى الاقتصاديات العالمية، إضافة إلى انفلات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بسبب الحرب المستمرة في غزة، وما يحدث في البحر الأحمر"، ويرجح إمكان "تبني الدول المنتجة للغاز مقاربة الجزائر التي أصبحت مرجعا اليوم والتي تقوم على العقود المتوسطة والطويلة الأجل مع ضمان الأسعار العادلة".
"لا" للعقوبات الأحادية
يضم المنتدى 19 دولة، منها 12 دولة تحمل صفة عضو أساس: روسيا، الجزائر، بوليفيا، مصر، غينيا الاستوائية، ايران، ليبيا، نيجيريا، قطر، ترينيداد، توباغو، الإمارات العربية المتحدة، وفنزويلا، منها 5 دول هي الأكبر تصديرا للغاز في العالم، بينما تحمل 7 دول صفة عضو مراقب هي: العراق، أنغولا، أذربيجان، ماليزيا، موزمبيق، بيرو، وموريتانيا، ويرتفع عددها إلى 9 دول بحصول السنغال وموزمبيق على صفة عضو مراقب. وأبدى المنتدى "دعمه لحوار قوي وهادف بين المنتجين والمستهلكين وكذلك الأطراف المعنية الأخرى ذات الصلة، قصد ضمان تأمين كل من العرض والطلب وتعزيز استقرار السوق والدفاع من أجل أن تكون أسواق الغاز الطبيعي منفتحة وشفافة وخالية من العوائق ودون تمييز".
وتتمثل آخر اللاءات في "رفض التطبيق الأحادي الجانب للإجراءات والتدابير الجبائية غير المسبوقة والمبررة تحت طائلة ضمان أمن الإمدادات بالطاقة بالنسبة إلى البعض، على حساب قواعد أسواق الغاز الطبيعي، مما قد يهدد باستفحال اختلال التوازنات على حساب الشعوب التي تعيش أوضاعا هشة"، مقابل تأكيد الحقوق السيادية المطلقة والدائمة للدول الأعضاء على مواردها من الغاز الطبيعي، وهو بند مهم للغاية يُراد من ورائه وضع حد لميول الشركات العالمية الكبرى التي تستثمر في مجال التنقيب والاستخراج إلى الهيمنة بعقودها الطويلة الأجل على حقول الغاز المنتشرة في البلدان الفقيرة.
حماية خيرات الشعوب الفقيرة من الاستغلال
ويبدو أن الدول المنتجة للغاز تريد وضع إطار قانوني مناسب يحمي الشعوب الفقيرة من استغلال خيراتها من طرف الشركات الغربية الكبرى الناشطة في هذا المجال، وبتفصيل أكثر فإن هذه الدول تريد بسط يدها على الثروات والخيرات النفطية أو منع هذه البلدان من الاستفادة منها بذريعة البصمة الكربونية التي يقصد بها التأثير البيئي للأنشطة البشرية مثل استهلاك الطاقة والانبعاثات، وهو ما يتسبب بتغيير كبير في المناخ وبالتدهور البيئي، على الرغم من أن هذه الدول حققت سابقا ثروات لا تعد ولا تحصى من دون أي اعتبار للشأن البيئي.