أكثر ما يؤرق المحللين السياسيين اليوم في موضوع حرب غزة، هو بحث سيناريو "اليوم التالي" للحرب، فلا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث عن ضرورة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة، مع الإعلان عن شق شارع أطلق عليه الإسرائيليون "الشارع رقم 749"، يفصل شمال غزة عن جنوبها، ولا يدع نتنياهو فرصة دون أن يتحدث عن رفض الدولة الفلسطينية، سواء كانت السيطرة فيها لـ"حماس" أو لـ"فتح".
في المقابل، فإن الخطاب الإعلامي لحركة "حماس" بدا أكثر مرونة مع تقدم أيام الحرب، وهو الذي كان واثقا في أيامها الأولى من قدرتها العسكرية. فبعد شهور من الحرب، وبعد أن وصلت إسرائيل إلى مناطق واسعة في القطاع، انخفضت التوقعات من القدرة العسكرية للفصائل وعلى رأسها حركة "حماس"، كما أن إعلان قادة من حركة "حماس" عن رغبتهم في الانضمام إلى "منظمة التحرير الفلسطينية"، هو دليل على فقدانهم الأمل في الحل العسكري في غزة.
أصدرت "حماس" تهديدا شديد اللهجة إلى وجهاء العائلات في غزة حتى لا يتعاملوا مع الإسرائيليين
قد يكون هذا الاعلان مناورة سياسية، ولا يعبر عن قناعة "حماس" بالمنظمة، كما أنه قد لا توجد آليات عملية لهذا الانخراط، لكنه يعكس في الأساس سعي "حماس" إلى أن لا تكون معزولة، بعد أن انفردت بقرار الحرب عن باقي الفلسطينيين، وهي التي تولت إدارة القطاع كأمر واقع بعد اقتتال داخلي عام 2007 أطاح بسلطة "فتح" في غزة. والقائد الفعلي الذي أطلق شرارة الحرب هو يحيى السنوار، مصنف على قائمة الإرهاب الأميركية منذ 2015، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2024 أدرجه الاتحاد الأوروبي على لائحة الإرهاب، بما يبعث المخاوف في نفوس قادة الحركة السياسيين الآخرين من اقترابهم من دائرة هذا التصنيف.
والخطة الإسرائيلية في السيطرة على القطاع بعد الحرب تتمثل في إقامة علاقات مع وجهاء عشائريين، وهي الطريقة التي عملت بها إسرائيل في عام 1978 لفصل الفلسطينيين عن "منظمة التحرير"، فيما عرف بروابط القرى، وذلك من خلال إقامتها علاقات إدارية مع وجهاء محليين، دون أن تكون لهم أحزاب سياسية، أو حرص على إقامة دولة فلسطينية.
على أن الكثير من تلك العائلات في غزة ارتبط بالجريمة المنظمة، وهذا يعني أن هذه الخطة قد تعقد الوضع هناك، ولا تساعد في إدارة القطاع. فإن منحت تلك العائلات صلاحيات أوسع، فسيكون لها سلطة على باقي الفلسطينيين، في توزيع المساعدات، والتحكم في اللاجئين. ولذلك فهذه الخطة محل تشكك في نجاحها، وقد أصدرت "حماس" تهديدا شديد اللهجة إلى وجهاء العائلات في غزة حتى لا يتعاملوا مع الإسرائيليين. وهذا يعني أنهم سيكونون محل استهداف إن وافقوا على المضي قدما في الخطة الإسرائيلية المرفوضة كذلك من السلطة الفلسطينية، كونها تقوض مطالبها في الرجوع إلى حكم غزة، ولا تتقاطع مع التعهدات الأميركية في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، كما أنها ستحمل إسرائيل المسؤولية الصحية والاقتصادية عن القطاع، كونها سلطة احتلال، وهو سيناريو لا يصمد على المدى الطويل.
قد تحتاج إسرائيل إلى التنسيق مع السلطة الفلسطينية لتملأ فراغ انسحابها بعد الحرب
وهناك سيناريو آخر يتمثل في أن ينفصل الجناح السياسي لـ"حماس" عن جناحها العسكري، ويصبح الأول مثل باقي فروع "الإخوان المسلمين" في مرحلة سابقة، ويدخل في "منظمة التحرير الفلسطينية"، بينما يبقى الجناح العسكري متمسكا بالخيار المسلح مع إصرار إسرائيل على البقاء في قطاع غزة. لكن هذا السيناريو بعيد، إذ إن وقود شعبية "حماس" يعتمد بشكل مباشر على ارتباطها بالعمل العسكري، لا على أدائها السياسي الذي لم يكن مرضيا لكثير من الفلسطينيين. وانفصال الشق السياسي يعني في الواقع انتهاء الحركة التي لم تثبت أنها قادرة على المناورات السياسية بمثل هذه الانعطافات الحادة، وذلك بالنظر إلى طبيعتها الأيديولوجية، وهو ما يجعل هذا السيناريو مستبعدا أيضا.
والسيناريو الأخير يتمثل في أن تحتاج إسرائيل إلى التنسيق مع السلطة الفلسطينية، لتملأ فراغ انسحابها بعد الحرب، وهذه الخطة يعارضها بنيامين نتنياهو، إذ تقرّب من وجود دولة فلسطينية، لكن التصريحات التي يطلقها الأخير لا تزال في أجواء الغضب والثأر في إسرائيل، وعلى المدى البعيد فإن دخول السلطة الفلسطينية إلى غزة هو الخيار الأكثر واقعية.
قد تتعنت إسرائيل في تسليم كامل القطاع
ومن ذلك أن السلطة الفلسطينية هي الأخرى تعتمد على حركة لها شعبيتها وتاريخها في غزة وهي "فتح". في الوقت نفسه، فإن الدمار الذي جلبته الحرب على قطاع غزة كان في صالح تعزيز خيار حركة "فتح"، الذي هو على النقيض من حركة "حماس"، ويميل إلى المطالبة بالحقوق السياسية، لا الدخول في صدام عسكري واسع مع إسرائيل، وهذا فضلا عن التعهدات الأميركية التي تؤكد أهمية حل الدولتين بعيدا من التصريحات الإعلامية الإسرائيلية.
لكن هذا لا يعني سهولة دخول السلطة الفلسطينية إلى غزة، وهو السيناريو المرجح على المدى البعيد. فقد تتعنت إسرائيل في تسليم كامل القطاع، وغالبا ما ستجعل منطقة شمال غزة التي تم فصلها بالفعل، تحت قبضتها لتسهيل دخول القوات إلى القطاع في المستقبل، ويكون قطاع غزة عرضة للاقتحامات المتواصلة كما يحدث في الضفة الغربية. هذا السيناريو وإن لم يكن مثاليا في تقديم الحلول للفلسطينيين، فإنه الأكثر واقعية، من فكرة استلام وجهاء العائلات الإدارة في غزة، أو انفصال الجناح العسكري عن السياسي في "حماس".