في عام 1978 سافر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984)، مرتين إلى إيران، الأولى من يوم 16 إلى 24 سبتمبر/ أيلول 1978، والثانية من يوم 9 إلى 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978. الواقع يقول إنّ رحلتي فوكو كانتا بتكليف مباشر، مدفوع الأجر، مضافا إليه مصروفات الإقامة والتنقل، من صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية، ليكتب مقالات عن المظاهرات الشعبية المتزايدة ضد نظام رضا شاه بهلوي.
كانت هناك منذ البداية إشارات ذات طابع ديني متطرف، فرضها الإسلاميون على العلمانيين واليساريين والقوميين والليبراليين الذين شاركوا في الثورة، فتحولتْ شعارات التنديد بالاستبداد الاقتصادي إلى شعارات نضال إسلامية ترى في معركة الثوريين ضد شاه إيران، إعادة تمثيل لمعركة كربلاء. لم يلتقط فوكو تلك الإشارات الواضحة، أو التقطها لكنه كان مفتونا بتجسيد الإرادة الجماعية، بقوتها وطاقتها الانفعالية، ولا يعنيه مَنْ يوجهها، وإلى ماذا ستؤول.
تقصى كلّ من جانيت أفاري وكيفين بي أندرسون في كتابيهما "فوكو والثورة الإيرانية"، (2005)، مفهوم الأصالة عند فوكو الذي يعني له دفع الحياة لحدود الخطر، ومغازلة الموت، ربما انطلاقا من فلسفة أستاذه نيتشه "ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى"، معتنقا تجارب الحدود القصوى، أو التجربة الحدّ عند موريس بلانشو، التي تؤدي إلى أشكال جديدة من الإبداع. بحث فوكو كثيرا عن قطيعة جذرية مع الحداثة الغربية العقلانية، وفي إيران وجد تلك القطيعة الجماعية غير معزولة، حيث ملايين تزلزل الشوارع، حشود لا نهاية لها، بإرادة واحدة، ورغبة واحدة، عبر تناقض مُضمر مُخيف، ما يُميتنا يُحيينا، إرادة قوة نيتشوية مُعَدّلة بمزاج شرقي، والكل وراء وراء مرشد روحي واحد. ينزع فوكو قبعة الكوجيتو الديكارتي، قبعة العقلانية، وينضوي تحت عمامة روح الله الخميني، عمامة الروحانية.
يفتتح فوكو إحدى مقالاته السياسية بقوله "إن العالَم المعاصر يعج بالأفكار التي تتحرك، وتختفي، ثم تعود للظهور، فتهز الناس والأشياء. هناك أفكار على الأرض أكثر مما يتخيل المثقفون، وهذه الأفكار أكثر قوة، ومقاومة، وعلينا أن نكون حاضرين عند ولادة الأفكار". وقد تمخضت الأفكار بعد عشرة أشهر من كلمات ميشيل فوكو، في 1979، عن إعدامات لا حصر لها، نالت بأوامر من روح الله الخميني قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليساريين والليبراليين من الرجال والنساء الذين وقفوا مع الثورة الإسلامية.
لم يلتقط فوكو تلك الإشارات الواضحة، أو التقطها لكنه كان مفتونا بتجسيد الإرادة الجماعية
ليس من الاستخفاف، أو القسوة في الحكم على ميشيل فوكو، أن نُرجع استلهامه لتعبير "الروحانية السياسية"، من اسم رجل الدين، روح الله الخميني، وذلك ربما بعد لقائه آية الله في باريس، أكتوبر/ تشرين الأول 1978، وهو لقاء غامض، توجد إشارات عديدة إليه في الصحافة الفرنسية، وهناك مصادر أخرى تتحدث فقط عن محاولة فوكو لقاء المرشد الروحي. لم يتحدث فوكو عن هذا اللقاء، ولم يسأله فارس ساسين، أشهر مَنْ أجرى مع فوكو حوارا مفتوحا عن تجربته الإيرانية، عن حقيقة هذا اللقاء.
يقول فوكو عن الإرادة الجماعية "إنها مثل الروح، شيء لن يواجهه المرء أبدا". عبارة فوكو تُرجّح وقوع الفيلسوف تحت تنويم مغناطيسي صوفي. كان يقرأ في تلك الفترة كتابات لويس ماسينيون، وهنري كوربين، وهما شخصيتان بارزتان في الدراسات الاستشراقية للإسلام. وفي خليط مضطرب من الصوفية والسياسة وأحلام القطيعة التاريخية مع الحداثة الغربية، وأحلامه الشخصية بصاحب العمامة السوداء، أخرج فوكو لنا مصطلح "الروحانية السياسية".
كان الخميني وقتئذ منفيا في "نوفل لو شاتو"، إحدى ضواحي باريس الراقية، وجارا للروائية الفرنسية مارغريت دوراس (1914-1996)، قرابة العام، وتحت حماية الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، وفي انتظار وصوله المُظفّر إلى إيران 1979، على متن طائرة خاصة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية.
هل كان فوكو بحضوره وتقاريره عن إيران، يعزز موضوع الآخر المُرَاقَب والمُعَاقَب في أعماله؟ وهل كان يكفي طموحه السياسي في البحث عن بديل روحاني ناجح، يختلف تماما عن الديموقراطية الليبرالية، ليعفيه من الاعتراف بخطئه، كما حدث مع مارتن هايدغر، بدعمه المتهور، قصير الأجل، للاشتراكية القومية، سيئة السمعة، في ثلاثينات القرن الماضي، ولم يعترف أيضا بخطئه؟
وصف فوكو في مقابلته مع فارس ساسين، إرادة الإيرانيين المتمردين عام 1978، بأنها كانت تأخذ شكل البحث عن نظام سياسي آخر، لا عن نظام رجال دين، البحث عن أفق إسلامي جديد. وعندما تحدث الثائرون عن حكومة إسلامية، أكد فوكو لساسين، مدافعا بعناد من موطنه الآمن الفرنسي، وبعد شهور عشرة من زيارتيه لإيران 1978 "إن الإيرانيين كانوا يقصدون أشكالا اجتماعية جديدة مبنية على روحانية دينية، تختلف بشكل حاد عن النماذج الغربية".
كيف لمفكر وفيلسوف عظيم مثل فوكو، ينخدع بسهولة في علامات الفاشية؟
الحقيقة أن فارس ساسين كان مجاملا لميشيل فوكو، وكأنّ الهدف من الحوار، هو تبرير سقطة فوكو بشكل غير مباشر، فلم يسأله ساسين مثلا، كيف كان الإيرانيون لا يريدون رجال الدين في الحكم، وآية الله الخميني في صورته الفوتوغرافية الشهيرة، يجلس تحت شجرة التفاح بحديقة بيته الأنيق في ضاحية "نوفل لو شاتو"، منتظرا قطوف الحكم الدانية، أو لم يسأله عن لقائه الخميني، أو محاولة لقائه به، وكيف كان رأي فوكو مطابقا لرأي الدولة الفرنسية، ألم يكن يشعر بقلق من هذا الانسجام الغريب، بينه وبين السلطة، للمرة الأولى؟
انتقد ماكسيم رودنسون (1915- 2004)، المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي، في مقال بصحيفة "لوموند" نشر عام 1978، موقف فوكو الرومانسي، وأشفق على شرائح واسعة في المجتمع الإيراني، سيما النساء، من احتمال تعرضها في المستقبل - وهذا ما حدث بالفعل - لفاشية باسم فضفاض، وهو "الحكومة الإسلامية"، التي قد تُطلق اتهامات بالكفر والخيانة، في وجه الآخر بكل تنويعاته، الفردي والجماعي، المتعيّن والمجرد، القديم والحديث. إن قبول فوكو لكل أفكار أصدقائه الإيرانيين الخمينيين، بسذاجة شديدة، وتجاهل شكوك أصدقائه الإيرانيين اليساريين والليبراليين، عن شكل "الحكومة الإسلامية"، يدعو للأسف، فكيف لمفكر وفيلسوف عظيم مثل فوكو، ينخدع بسهولة في علامات الفاشية؟
في 6 مارس/ آذار 1979 هاجمتْ صحيفة "لوماتان" فوكو، بسبب دعمه للثورة الإيرانية، وكانت المناسبة يوم المرأة العالمي. وفي 14 و15 مارس/ آذار كانت هناك ندوة سياسية نظمها جان بول سارتر، عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يستطع سارتر إقامة الندوة إلا في شقته، فيما يُشبه السرية، حتى يتمكن فوكو من الحضور، وينجو من هجوم الصحافيين. في 14 أبريل/ نيسان 1979 نشر ميشيل فوكو رسالة مفتوحة إلى مهدي بازركان في صحيفة "أوبسرفاتور"، أدان فيها، بخيبة أمل، النظام الإيراني، معتقدا أنه يستطيع التأثير على مهدي بازركان رئيس وزراء إيران الجديد. وفي 17 أبريل / نيسان 1979 بدأت الجماعات الثورية الخمينية في إعدام معارضي الجمهورية الإسلامية.