انضمت البرتغال أخيرا إلى قائمة الدول الأوروبية التي حقق فيها اليمين المتطرف تقدما سياسيا، كما يتضح من حصول حزب "تشيغا" على المركز الثالث في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مارس/آذار. ولا تقتصر هذه الظاهرة على البرتغال وحدها. ففي جميع أنحاء أوروبا، قطعت الأحزاب اليمينية المتطرفة خطوات كبيرة في بعض البلدان، في حين أنها في بلدان أخرى، تحدت الأحزاب السياسية الرئيسة من خلال الانتخابات، دون تغيير المشهد السياسي بشكل جذري. ومع ذلك، سيكون من التسرع أن نستنتج أن أوروبا ككل على وشك الخضوع لهيمنة اليمين المتطرف.
الدوافع وراء صعود اليمين المتطرف
يكتسب صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية أهمية خاصة لأنه نتاج ديناميتين رئيستين تضافرتا معا في دول مثل النمسا وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا والبرتغال والسويد والمملكة المتحدة.
الأولى هي الهجرة. فمع تصدر أنشطة "داعش" الإرهابية، وكذلك الصراع السوري، عناوين الأخبار في جميع أنحاء أوروبا عام 2015، غذت الجماعات اليمينية شعورا سائدا في المجال العام الأوروبي بأن القارة على وشك أن يغمرها طوفان المهاجرين الفارين من الصراع. كما ساهم ما سمي "أزمة المهاجرين" في تصويت المملكة المتحدة عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي ممهدة الطريق أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا ودول أخرى كي تستخدم الخوف من الهجرة لحشد الدعم الشعبي لها.
بعض القضايا التي ساهمت في ارتفاع شعبية اليمين المتطرف بدأت بالتلاشي
انقضى قرابة عقد من الزمن ولا يزال اليمين واليمين المتطرف يستخدمان الهجرة كأداة سياسية. ففي المملكة المتحدة، لا تزال المفاوضات القانونية في حالة شد وجذب بين الحكومة والمحاكم ومجلس العموم ومجلس اللوردات، حول ما إذا كان في وسع الحكومة تنفيذ خطة لترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا، والإبقاء عليهم هناك في مراكز الاحتجاز لحين النظر في قضاياهم. ويتبنى وزراء الداخلية المتعاقبون من حزب المحافظين الحاكم خطة رواندا كرمز لالتزامهم بكبح الهجرة غير الشرعية. وبينما تترقب المملكة المتحدة الانتخابات العامة في النصف الثاني من هذا العام، تُستخدم مسألة الهجرة كواحدة من القضايا الرئيسة لجذب الناخبين ذوي الميول اليمينية. وتتشابه في هذه المسألة بعض الخطابات التي يستخدمها اليمين مع تلك التي يستخدمها اليمين المتطرف.
أما الدينامية الأخرى فهي التحديات الاقتصادية، التي تستخدمها الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة لجذب المؤيدين لهم. فجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا خلفتا آثارا اقتصادية كبيرة في جميع أنحاء أوروبا، أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود وزيادة التضخم وارتفاع أسعار الفائدة على المقترضين. وقد خسر كثير من الناس وظائفهم بينما يكافح آخرون لتغطية نفقاتهم بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة. فاستغل الساسة الشعبويون مخاوف الناس على معيشتهم ليثيروا مشاعرهم ولجذبهم إليهم. كما أن سياسات المناخ واحدة من بين القضايا التي يستقطب بها اليمين المتطرف الشعبوي الناخبين. فهم يصورون السياسات الخضراء على أنها غير ضرورية ومكلفة في وقت تواجه فيه الدولة مصاعب مالية.
التحول إلى أقصى اليمين
بعض القضايا التي ساهمت في ارتفاع شعبية اليمين المتطرف بدأت بالتلاشي الآن، مثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والتضخم الهائل. ومع ذلك، شهدت بعض الدول الأوروبية تحولا ملموسا نحو اليمين المتطرف في انتخاباتها الأخيرة. وحظيت إيطاليا بالقدر الأكبر من الاهتمام عقب نجاح حزب "أخوة إيطاليا" اليميني المتطرف، الذي أوصل زعيمة الحزب جورجيا ميلوني إلى السلطة كرئيسة للوزراء بعد تعبئة الناخبين حول مسائل مثل التشكيك في الاتحاد الأوروبي وبالخطاب المناهض للهجرة.
كما تقود فنلندا الآن حكومة ائتلافية فيها ممثلون عن "حزب الفنلنديين" اليميني المتطرف. وبعد وقت قصير من انتخابات العام الماضي، واجهت الحكومة اضطرابات بسبب ظهور تعليقات عنصرية أدلى بها وزراء من الحزب، ما دفع أحزاب المعارضة إلى الدعوة للتصويت على حجب الثقة عن الحكومة. لكن الائتلاف الحاكم تمكن من البقاء حتى الآن، باستغلاله المخاوف الشعبية من الهجرة والعجز العام الذي تزايد في ظل حكومة يسار الوسط السابقة التي تزعمها الحزب الديمقراطي الاشتراكي.
حتى لو حققت أحزاب اليمين المتطرف تقدما، فلا يعني ذلك حدوث تحول خطير على المستوى الوطني
أما في السويد فلم يُمثّل الحزب اليميني المتطرف "ديمقراطيو السويد"، في حكومة يمين الوسط الحاكمة، لكنه كان مؤثرا في تحديد سياسة الحكومة من الهجرة عبر صفقة "العرض والثقة" التي يعتمد بقاء الحكومة الائتلافية عليها. ويضع حزب "ديمقراطيو السويد" الانتخابات المقبلة نصب عينيه كي يستبدل دوره الحالي كصانع للملوك من خارج الحكومة بدور يكون فيه ممثلا سياسيا رسميا.
وفي النمسا، يحقق حزب "الحرية" اليميني المتطرف تقدما في استطلاعات الرأي، مما يهدد بالإطاحة بالحكومة الحالية بقيادة حزب "الشعب النمساوي" المحافظ، وحزب "الخضر" في انتخابات الخريف المقبل. والدينامية نفسها في فرنسا، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، ستفوز في الانتخابات الرئاسية لو أجريت اليوم.
ليس أمرا واقعا
حتى لو حققت أحزاب اليمين المتطرف تقدما، فلا يعني ذلك حدوث تحول خطير في الاتجاه السياسي على المستوى الوطني. ففي ألمانيا تتزايد شعبية حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. لكن من غير المرجح أن يكون للحزب تأثير في الانتخابات المقبلة عام 2025؛ وينظم الناس في ألمانيا احتجاجات عامة ضد الحزب كإجراء استباقي لمنعه من الحصول على الأصوات.
أما اليونان فأصبحت العام الماضي الدولة الأوروبية الوحيدة التي يتمثل في برلمانها ثلاثة أحزاب يمينية متطرفة. إلا أن هذه الأحزاب ليست منظمة ولا قوية بما يكفي لإحداث تحول كبير في الاتجاه السياسي في البلاد.
قد يخفف الساسة اليمينيون المتطرفون من غلواء مواقفهم بغية توسيع نطاق جاذبيتهم
وفي هولندا فاز حزب "الحرية" اليميني المتطرف بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات الوطنية في نوفمبر/ تشرين الثاني، إنما ليس لديه ما يكفيه من المقاعد لتشكيل حكومة، كما فشل في تشكيل ائتلاف مع أحزاب أخرى بسبب الآراء المتطرفة لزعيم الحزب خيرت فيلدرز، المعروف بمواقفه المعادية للإسلام.
كما أن بين أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية اختلافات كبيرة. ففي المجر، هذا فيكتور أوربان- الذي يتولى منصب رئيس الوزراء منذ عام 2010 في عملية سياسية يراها كثيرون مزورة- يتخذ موقفا مؤيدا لروسيا ترفضه الأحزاب اليمينية المتطرفة في دول أوروبية أخرى. ومع أن لدى جورجيا ميلوني علاقة طويلة الأمد مع أوربان، فإنها كانت هي نفسها صريحة في التعبير عن دعمها لأوكرانيا، في حين هدد "ديمقراطيو السويد" بالانسحاب من مجموعة يمينية في البرلمان الأوروبي، تسمى مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين، إذا انضم إليها أعضاء من حزب "فيدس" الذي يتزعمه أوربان.
وأخيرا، قد يخفف الساسة اليمينيون المتطرفون من غلواء مواقفهم بغية توسيع نطاق جاذبيتهم. فقد خففت ميلوني من تشككها في الاتحاد الأوروبي ومن موقفها من الهجرة، في حين أعادت لوبان صياغة خطابها المعادي للأجانب بتركيزها على تحسين حياة الشعب الفرنسي بطريقة ملموسة. وفي الوقت نفسه، قد تتشدد أحزاب يمينية سائدة في بعض القضايا مثل قضية الهجرة، سعيا منها لجذب الناخبين اليمينيين المتطرفين، كما فعل حزب المحافظين في المملكة المتحدة.
تساهم دينامية الالتقاء في الوسط هذه في التحول الفعلي لجميع أنحاء أوروبا نحو اليمين، وما يتميز به من سياسات اقتصادية محافظة. أما في مسألة الهجرة فتأثيرها الصافي يتمثل في زيادة القيود عليها. بينما في مسألة التشكك في الاتحاد الأوروبي، تظل الصورة العامة بعيدة كل البعد عن أن يكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأثير الدومينو. ومن منظور أوسع لا تزال المصالح الأوروبية المشتركة قوية، مع تقدم ليمين الوسط على اليمين المتطرف بفارق لا يزال كبيرا.