مرت شهور واليمنيون لم يغفروا للفنان فؤاد عبد الواحد زلة لسانه إذ قال إنه من أصول يمنية! لسبب وحيد هو أن فؤاد لم يمض سوى سنوات قليلة على مغادرته اليمن وحصوله على جنسية دولة شقيقة لم يفصح عن اسمها.
يشعر اليمنيون بجروح إضافية حين يتنصل منهم أحد أبنائهم، في وقت صاروا يشعرون فيه أن إرثهم، أو تاريخهم العظيم، يهمَّش عن قصد، أو بفعل تسلط ميليشيات حرب لم تعد تأبه بأي مشاعر تكرّست عبر تاريخ قديم، بقي فيه أناس البلد يزهون بمقولات "اليمن السعيد" و"أصل العرب" و"اليمن العزيز".
لذا هم يحتفظون بتسجيلات يتداولونها، يحيي فيها الفنان محمد عبده أهله في "المَرَاوعة" اليمنية، ويذكر طلال مداح أباه الذي جاء من حضرموت، أما أبو بكر سالم بلفقيه وعبد الرب إدريس فلم يغادرا حضرموت وعدن إلا بعدما اكتمل صوتهما.
في بلدان أخرى يصير من السهل أن تقول إن أصلك من بلد ما إذا ما حصلت على جنسية جديدة، وهو حقك في أن تنتسب الى البلد الذي صرت تحمل جواز سفره، ولكن بالنسبة الى فنان اشتهر في بلده، سيصير من الصعب أن يقول إن ما يربطه بهم عبارة عن أصل، أو جذر.
في بلدان أخرى يصير من السهل أن تقول إن أصلك من بلد ما إذا ما حصلت على جنسية جديدة
حزن كثيرون لأنهم صوتوا لفؤاد ليتوج بلقب "نجم الخليج" في مسابقة تلفزيون دبي عام 2010، وأظن، من هذه الناحية، أن تحسّرهم هذا مبالغ فيه، ففؤاد كان سيفوز بتصويتهم أو من دونه، فقد بدا منذ أول مشاركة أنه يتمتع بصوت لا أحد ينافسه فيه، كما قال محمد عبده وعبدالله الرويشد وأنغام. لقد ظهر فنانا مكتملا، لا يتكئ على مؤسسة ثقافية أو فنية، أو أي دعم، سوى صوته.
يمكنكم أن تعودوا الى تسجيلات "يوتيوب" لتعرفوا ماذا يعني قولي، وبالتأكيد هذا ليس رأيي الدائم بفؤاد، بعدما استقطبته موجة أغاني المناسبات والحب المستهلك بلهجات وأساليب غير معتاد عليها. بالتالي افتقد وهجه الأول الذي شرب من نبع الأغنية اليمنية التراثية، وهو النبع الذي استقى منه فنانو العرب الكبار.
في ذكر هذا المنبع، أتذكر أن الصحافي يحيى زريقان قال مرة إن الحديث عن دور هذا النبع اليماني مبالغ فيه، فتصدى له حراس الأغنية اليمنية بالرد فذكروا له أكثر من مئة أغنية عربية مشهورة لفنانين كبار أخذوها أو طوروها من الألحان اليمنية. ما زلنا حتى الآن نسمع أغاني باشراحيل والماس والمرشدي ومحمد سعد عبدالله وأيوب طارش بأصوات فنانين مشهورين بعضهم يذكر اسم الملحن والشاعر وبعضهم ينسبها الى نفسه، أو يكتفي بالقول إنها من التراث. تراث مَنْ؟
قبل أشهر، شاهدتُ حفلات في الخليج لإحدى الفنانات من أصول يمنية، قدمت خلالها أغاني مثل "على أمسيري" و"شِفتَه ناقش الحِنة" من كلمات الشاعر اليمني أحمد الجابري الذي كان يعاني من مرض وفقر وخذلان قبل وفاته في بداية يناير/كانون الثاني الماضي. وحينها تساءلت ماذا لو منحت هذه الفنانة الجابري عشرة في المئة، أو خمسة في المئة على الأقل، من عائدات حفلاتها التي شاهدتها فقط؟ لقد كانت كفيلة أن تعيد إليه بعض راحة في آخر عمره. وهذا القول ينطبق على كثيرين من الشعراء والفنانين، مثل حسين أبو بكر المحضار ومحمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبدالله الذين نهبت حقوقهم في حياتهم ومماتهم.
لنعد إلى مسألة فؤاد والأصول. في الأسبوع الماضي نشر المستشار تركي آل الشيخ ملصقا لحفلة حبيب عبد الواحد، وهو شقيق فؤاد، في عدن، مع عبارة "صوته يعجبني"، فتهلل اليمنيون فرحين بهذا الرأي الذي يصدر من أحد كبار مسؤولي الترفيه في العالم العربي، حيث وجدوا فيه ردا على فؤاد "المنكِر لأصله" حسب زعمهم، خاصة أنه كان قد قال في تصريح سابق أن لا أحد يمتهن الفن في أسرته غيره، وربما كان صادقا وقتذاك إذ لم يكن حبيب قد عُرف، ولم تكن حفلاته تتجاوز الأعراس الخاصة.
هذا الموقف الانفعالي لا يقتصر على فؤاد وحده، وقد عانت منه أيضا الفنانة بلقيس، ابنة الموسيقار اليمني الكبير أحمد فتحي
هذا الموقف الانفعالي لا يقتصر على فؤاد وحده، وقد عانت منه أيضا الفنانة بلقيس، ابنة الموسيقار اليمني الكبير أحمد فتحي، التي عاشت معظم حياتها في الإمارات واكتسبت جنسيتها، فظل هناك من يعايرها بأنها ليست من أصل إماراتي، وقد عملت بلقيس بعدها بذكاء من أجل إرضاء "جمهورها" في اليمن والخليج.
هذا الارتباك في الهويات الصغيرة، إذا جاز التوصيف، لم تعان منه فنانة مثل أروى التي عادة ما تصرح بأنها يمنية مع قولها إنها تدين للمشهد الفني السعودي بتشجيعها وتقديمها. وهو أمر لم يأبه له فنانون كبار مثل أبو بكر سالم وعبد الرب إدريس، فأغانيهم هي الوطن الذي ينجذب إليه الجميع بمختلف جنسياتهم وأصولهم. وهو ما نجده لدى معظم الفنانين في العالم الذين لم تعد مسألة الأصول مشكلة بالنسبة إليهم.
أظن أن هذه المسألة قد تفيد الدارسين الأنثروبولوجيين الذين يهتمون بالتحولات الديموغرافية الاجتماعية وانعكاسها على حياة الناس وثقافتهم، كما حصل مع الحائز جائزة نوبل للآداب عبد العزيز قرنح الذي تعود أسرة أبيه إلى الديس الشرقية في حضرموت، شرق اليمن؛ فهو إذ ولد وعاش شبابه في كينيا وسط مجتمع مسلم، قبل أن يغادر إلى بريطانيا، سيكون من المهم قراءة أدبه في ظل هذه التأثيرات البيئية الواضحة. مهما قال عن علاقته بالمجتمع العربي في اليمن أو كينيا. ولعل هذا الاهتمام بالأصول هو ما دعا جامعة حضرموت إلى دراسة أدبه في قسمها الإنكليزي قبل حصوله على نوبل، وهذا ما لم يحدث في أي جامعة عربية أخرى حيث لم يكن قد ترجم أدبه إلى اللغة العربية.