تثير حرب إسرائيل في غزة، وهي حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، كثيرا من التساؤلات أو الملاحظات المسكوت عنها، رغم أن الحروب الأربع السابقة أثارتها (2008- 2012- 2014- 2021)، مع معرفتنا بأن القطاع منطقة ضيقة (365 كيلومترا مربعا)، ويقطن فيه 2.3 مليون نسمة في ظروف عيش صعبة، سيما مع خضوعه لحصار إسرائيلي مشدد، منذ عام 2007 (17 عاما)، مع التقدير لكل التضحيات والبطولات والمعاناة التي بذلت في ظل كل ذلك.
بيد أن تلك الحرب أثارت مجددا الأسئلة المسكوت عنها في كل حروب الفلسطينيين، وكفاحهم المسلح، من أساسه، أيضا، والذي تم التأريخ له بالعملية الأولى (مطلع 1965).
بدأت حرب غزة بالعملية الهجومية لـ"حماس"، التي استهدفت مستوطنات غلاف القطاع (7/10/2023)، والتي انتهت في اليوم نفسه، بعودة المشاركين فيها إلى قواعدهم في غزة، بعد أن كبدوا إسرائيل خسائر بشرية ومعنوية وسياسية كبيرة. لكن الحرب لم تنته، إذ شنّت إسرائيل، طوال خمسة أشهر، حربا وحشية على القطاع، دمرت بناه التحتية، ومعظم بيوت الفلسطينيين، وقتلت عشرات الألوف منهم، وشردت حوالي مليونين، باتوا في أحوال بائسة، دون مأوى أو مورد رزق، ومن دون قدرة على تأمين حاجاتهم الحياتية الأولية.
الملاحظة هنا أن المقاومة لا تقاس فقط بما يخسره الأعداء وإنما بردة فعلهم أيضا، كما بتداعياتها على المجتمع الذي تنتمي إليه تلك المقاومة، في حسابات جدوى سياسية، يفترض أن تكون التأثيرات أو الخسائر لصالح المقاومة وشعبها، وليس العكس.
أيضا، تصحّ في هذا المجال الفكرة التي تفيد بأن أية جهة قد تستطيع أن تبدأ حربا لكنها لا تستطيع التحكم في نهايتها، أو في نتائجها. فقد بدأت "حماس" الحرب (وهي غير المقاومة)، لكن نهايتها لم تبق بيدها، وهذا حصل في كل الحروب السابقة، رغم إشهار ناطقيها في كل مرة لشروط وقف إطلاق النار، وحديثهم عن فرض "قواعد اشتباك" جديدة، إلا أن كل ذلك لم يثبت، ولم يغير في المعادلات شيئا، إذ ظلت إسرائيل تعتدي، وتفرض حصارا مشددا على غزة، وفي الوقت نفسه ظلت تعتقل وتقتل وتنتهك المقدسات في القدس وتبني المستوطنات في الضفة.
أي تغيير لغير صالح إسرائيل يتطلب تغييرا في المعادلات وموازين القوى الدولية والعربية
ما الذي سيحصل الآن؟ كيف ستقف الحرب؟ أو ما الذي تملكه "حماس" لتفرض شروطا لم يمكنها في وضع سابق، أفضل، أن تفرضها؟ وحتى بفرض الإفراج عن كل الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب إسرائيل من كل شبر من غزة، فما النتيجة؟ ما الذي بقي من غزة؟ وما هو وضع الفلسطينيين؟ وهل الوضع اليوم أفضل من قبل السابع من أكتوبر أم أسوأ بكثير؟
ضمن الملاحظات، تأتي مشكلة الفلسطينيين في ضعف إدراكهم لواقع أن إسرائيل كدولة تتفوق عليهم، بقدرات اقتصادية وتكنولوجية وعلمية واجتماعية وعسكرية، هي في مصاف دول كبرى، وأنها يمكن أن تتحمل حربا طويلة، وخسائر بشرية كبيرة، عكس الظن الخاطئ بها، وأنها تتمتع أيضا بقوة مضافة من دعم وضمان دول العالم الكبرى لأمنها وتفوقها، وأنها نشأت كوضع دولي. والمعنى من ذلك أن أي تغيير لغير صالحها يتطلب تغييرا في المعادلات وموازين القوى الدولية والعربية، وليس الفلسطينية فقط، وهذا ما يجب إدراكه، واستخلاص الخيارات السياسية والكفاحية منه، التي لا تزجّ الشعب الفلسطيني في معارك فوق قدرته على التحمل، أو تبدد طاقته الكفاحية وتستنزف إمكانياته، في غير أوانها، وبحيث يتم انتهاج خيارات يمكن الاستثمار فيها سياسيا، في صراع طويل الأمد، ويكسب بالنقاط، لا بالضربة القاضية، بالمقاومة الشعبية المتدرجة، وليس كجيش لجيش، وها نحن نشهد أن إسرائيل هي التي تصر على مواصلة القتال، وأنها هي التي تدير معركة استنزاف ضد الفلسطينيين، وليس العكس.
لنلاحظ أن الحركة الوطنية الفلسطينية، في مسيرتها الطويلة والعسيرة، بدأت عام 1965، لكنها أخرجت من الأردن عام 1970، ثم من لبنان 1982، ثم انخرطت في اتفاق أوسلو (1993)، فأقامت السلطة الفلسطينية على 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، لكنها بعد الانتفاضة الثانية (2000-2004)، التي تعسكرت، وغلب عليها نمط العمليات التفجيرية، ضمرت، بسبب ردة فعل إسرائيل، التي تمثلت في بناء الجدار الفاصل، وعشرات النقاط الاستيطانية في الضفة، وبتعزيز تهويد القدس، وتكريس الانقسام بين الضفة وغزة، سيما مع حصارها غزة، أي إن إسرائيل اشتغلت، في كل مرة، على استيعاب خيارات الفلسطينيين، السياسية والكفاحية، وانتهاج سياسات تؤدي إلى تهميشها وتبديدها، بدلالة واقع الفلسطينيين اليوم كشعب، وكياناتهم السياسية، وبخاصة انكشاف عجزهم، في الضفة والقدس و48، في التعبير بجلاء، ليس عن دعمهم، وإنما حتى عن تضامنهم مع شعبهم في غزة على الأقل.
الفلسطينيون أحوج إلى استراتيجية سياسية وكفاحية واقعية تمكنهم من الصمود في أرضهم، وتعزيز وحدتهم
في كل المراحل أيضا، يمكننا ملاحظة أن الفلسطينيين في خياراتهم الكفاحية، وعدا افتقادهم لاستراتيجية كفاحية ممكنة وواضحة ومستدامة يمكن الاستثمار فيها وفقا لظروفهم، أنهم كانوا لا يقدرون إمكانياتهم الذاتية الفعلية، ويبالغون جدا في حجم الدعم الخارجي لهم، من دون تمييز بين الدعم الخارجي لكفاحهم، والتعاطف السياسي أو المعنوي مع قضيتهم، ودون التمييز بين استخدام قضيتهم من قبل بعض الأنظمة، في الابتزاز والمزايدة والاستهلاك، وبين تبنيها حقا كقضية حرية وكرامة وعدالة.
هكذا، توهّمت قيادة "فتح"، بمقولة أن "فلسطين القضية المركزية للأمة العربية"، وبفكرة "التوريط الواعي"، مثلما توهّمت قيادة "حماس" بقصة "وحدة الساحات"، وبدعم الأمتين العربية والإسلامية.
تبعا لما تقدم، لا يجوز لفصيل ما- "فتح" أو "حماس" أو أي من الحركات أو الجبهات- أخذ الشعب نحو خيار سياسي أو كفاحي، مهما كان نوعه، من دون تبصر وتفحّص الظروف الذاتية والمعطيات الموضوعية ومواءمتها لهكذا خيار، من عدم ذلك، سيما مع الهوّة التي تفصل بين الكيانات السائدة وعموم الفلسطينيين في الداخل والخارج، وضعف المشاركة السياسية، وهامشية الأطر التشريعية، ومع علمنا بعدم تهيئة الشعب وإعداده لأي خيار، إذ إن أغلبية الفلسطينيين خارج الفصائل التي أضحت سلطة على شعبها، بمعنى الكلمة، في الضفة وغزة، خاصة أن الشعب، الذي لا أحد يأخذ رأيه، هو الذي يدفع الثمن الأكبر لأي خيار يأخذه أي فصيل بالمقاومة أو المفاوضة، بالحرب أو التسوية؛ وهذا ما نشهده في غزة اليوم.
لا حاجة للفلسطينيين في مقاومتهم المشروع الصهيوني منذ قرن- مع معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم- إلى مبالغات أو أوهام، فهم أحوج إلى استراتيجية سياسية وكفاحية واقعية تمكنهم من الصمود في أرضهم، وتعزيز وحدتهم كشعب، والبقية تأتي بناء على ذلك.