في الحفل الرسمي لتوليه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في العشرين من يناير/كانون الثاني 2017، قال الرئيس دونالد ترمب في خطابه الأول كرئيس: "من اليوم فصاعدا، ستحكم بلادنا رؤية جديدة. من هذه اللحظة فصاعدا، ستكون هذه الرؤية (أميركا أولا). سيكون كل قرار يُتخذ سواء في مجال التجارة أو الضرائب أو الهجرة، أو العلاقات الخارجية، لمصلحة العمال الأميركيين والعوائل الأميركية. يجب علينا أن نحمي حدودنا من التجاوزات الضارية للبلدان الأخرى التي تصنع منتجاتنا وتنهب شركاتنا وتدمر وظائفنا... ستبدأ أميركا بالانتصار من جديد، بالانتصار على نحو لم يسبق لها أبدا".
كان الرجل وفيا لرؤيته الانعزالية هذه التي تقوم على الارتياب في العالم الخارجي واعتباره السبب الأول لمشاكل أميركا. بعد خمسة أيام، وقع ترمب قرارا رئاسيا تنفيذيا ببناء جدار عازل على حدود أميركا الجنوبية مع المكسيك لوقف العبور غير المُرخص به للمهاجرين القادمين من هناك (لم يُبنَ الجدار في آخر المطاف، أساسا بسبب المعارضة الديمقراطية له). في اليوم السابع بعد إلقاء الخطاب، وقَّعَ أمرا آخر يتعلق بمنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة للولايات المتحدة (رفضته محكمة اتحادية وتم تخفيفه لاحقا). كان تبرير هذه الإجراءات هو أن هؤلاء الأجانب سواء كانوا قادمين عبر الحدود المكسيكية أو من الدول السبع يقوضون أمن الولايات المتحدة، عبر أعمال إجرامية أو إرهابية محتملة، ويهددون سوق العمل الأميركية.
يتصور ترمب أن الكلام عن التغير المناخي جزء من سعي مؤامراتي أوسع لإضعاف الاقتصاد الأميركي
توالت إجراءات الرجل التي تعزل الولايات المتحدة عن العالم، لكن الإجراء الأخطر ربما كان في يونيو/حزيران من العام نفسه: انسحاب أميركا في منتصف عام 2017 من "اتفاق باريس للمناخ" عام 2015. جاء هذا الاتفاق تتويجا لجهود دولية كبيرة ومهمة لتقليل انبعاث الغازات الدفيئة التي تسبب زيادة حرارة الأرض، وبالتالي تسريع التغير المناخي، الذي إذا تواصل وتسارع، فإنه يهدد جديا بقاء كوكب الأرض كبيئة صالحة لعيش البشر فيه. دخل في هذا الاتفاق نحو 175 دولة، لتلتزم بموجبه ببذل جهود وطنية لتخفيض انبعاث هذه الغازات على أساس جداول زمنية. بوصفها ثاني أكبر مُلوث في العالم، بعد الصين التي تُعتبر المُلوث الأول (في عام الانسحاب من الاتفاق، بلغت الانبعاثات الأميركية أكثر من خمسة مليارات طن متري، فيما تجاوزتها بحدود الضعف الانبعاثات الصينية التي بلغت حينها أكثر من عشر مليارات طن متري)، تتحمل الولايات المتحدة جزءا كبيرا من المسؤولية عن هذا التهديد لاستمرار الحياة الإنسانية على الأرض، فنسبة تلويثها مقارنة بعدد السكان فيها، وليس بإجمالي الانبعاثات، هي الأعلى في العالم وتتجاوز الصين بكثير. لذلك يقع عليها التزام أخلاقي وقانوني ببذل ما يلزم من جهود لمكافحة التغير المناخي. وقد أعاد جو بايدن الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق في يومه الأول رئيسا للولايات المتحدة، في العشرين من يناير/كانون الثاني.
لا يؤمن ترمب بوجود شيء اسمه التغير المناخي رغم ما أصبح الآن إجماعا علميا للمتخصصين بوجود الظاهرة وخطورتها على استمرار حياة الإنسان على الأرض. وككثير من جيل الانعزاليين الأميركيين الحديث وأصحاب الرؤى الأيديولوجية الذي ينتقي ما يناسبه من الوقائع وينكر ما يخالفها، يرتاب ترمب بالمعرفة التي تناقض معتقداته ويشكك بها علانية عبر انتقاء أصوات شاذة خارجة عن إجماع المتخصصين وتقديمها على أنها مرجعية ودقيقة (فعلَ شيئا شبيها بخصوص جائحة كورونا ليتسبب بموت أعداد كبيرة من الأميركيين). من هنا، يتصور الرجل أن الكلام عن التغير المناخي هو جزء من سعي مؤامراتي أوسع لسرقة الوظائف من العمال الأميركيين وإضعاف الاقتصاد الأميركي، وهو الخطاب الذي يتناغم مع مظالم أميركيين كثيرين من عمال المصانع، عموما من ذوي التحصيل الدراسي الأدنى والخبرات المحددة والمتراكمة في مجالات عمل تقليدية، تقنية عادة، كثيرا ما تكون موروثة عائليا أو مناطقيا. لا يساعد مثل هذا الثبات النسبي في المعارف والخبرات هؤلاء العمال، الذين تحولوا إلى جمهور ساخط داعم بقوة لترمب، على تطويرهم المرونة اللازمة للتكيف مع المتغيرات السريعة في اقتصاد دينامي ومتحرك، عالمي الطابع، حتى بالمعنى الجغرافي للكلمة، في إطار العولمة التي أطاحت بوظائف تقليدية كثيرة وصنعت أخرى تحتاج مهارات جديدة ليست متوفرة عموما في مثل هذا الجمهور.
لا تتوقف نسخة الانعزالية الأميركية التي يمثلها ترمب عند السياسة والأمن بل تتعداها إلى الاقتصاد
الانعزالية السياسية هي الثيمة الأشد وضوحا في سجل ترمب في البيت الأبيض. فقد انتهج سياسات كثيرة مقلقة على نحو أحادي من دون التشاور والاتفاق مع الشركاء الأوروبيين والإقليميين، ومن دون الاهتمام بالنتائج والعواقب، كما في قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي اتخذه الرجل في 2019 الذي أعاد "طالبان" إلى حكم البلد المنهك من الحروب والفقر، بعد أن نفذه بايدن في 2021، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في 2018 الذي قاد إلى زيادة التخصيب النووي الإيراني حتى تطوير إيران الحثيث ما يكفي من قدرات ومواد تقربها كثيرا من صناعة قنبلة نووية، فضلا عن قرار سحب القوات الأميركية من سوريا في 2019 الذي اضطرت شدة المعارضة المؤسساتية والسياسية الأميركية له ترمب إلى ايقاف تنفيذه بشكل كامل. الأبرز في هذه المواقف الانعزالية هو موقف الرجل من "الناتو" الذي يقوم على ازدراء هذا الحلف العسكري والتعامل معه على نحو تبسيطي وغير مسؤول على أنه مجرد التزام تجاري لدفع الأموال في نادٍ ترفيهي للتمتع بمميزاته بحسب أحد المحللين الأميركيين، وليس كترتيب استراتيجي مهم، سياسي- عسكري، لعب دورا أساسيا في الحفاظ على السلم في أوروبا على مدى السبعين عاما الماضية. من وراء الكواليس، هدد ترمب عندما كان رئيسا بضع مرات بسحب الولايات المتحدة من هذا الحلف، فيما هدد علانية بعدم الالتزام بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، وهي المادة الأهم في هذا الحلف وعموده الفقري: الدفاع المشترك في حال تعرض أحد أعضاء الحلف البالغ عددهم 31 دولة لاعتداء خارجي.
لا تتوقف نسخة الانعزالية الأميركية التي يمثلها ترمب عند السياسة والأمن بل تتعداها إلى الاقتصاد بلوم الرجل الدائم المتاعب الاقتصادية في أميركا على العالم الخارجي، الحلفاء والخصوم على حد سواء تقريبا. تَرجم ترمب هذا اللوم إلى سياسات حمائية شديدة، تناقض التزامات أميركا في إطار منظمة التجارة الدولية: المحرك المؤسساتي للعولمة والناظم القانوني لها، كما في زيادته على نحو أحادي التعرفة الجمركية بنسب تتراوح بين 25 إلى 50 في المئة على بضائع كثيرة تستوردها الولايات المتحدة كالحديد والفولاذ والألومنيوم والغسالات الكهربائية والألواح الشمسية ومواد زراعية وغيرها، من دول قريبة وبعيدة كالمكسيك وكندا ودول الاتحاد الأوروبي والهند والصين. رَدت هذه الدول بزيادات شبيهة للتعرفات الجمركية فرضتها على البضائع التي تستوردها من أميركا (ألغى بايدن الكثير من هذه التعرفات الجمركية، مع إبقائه معظم التعرفات ضد الصين). رغم الأدلة القوية على أن هذه السياسات أضرت بالاقتصاد الأميركي، كما في تراجع الصادرات الزراعية الأميركية للصين وتسببت في فقدان مئات الآلاف من الوظائف في أميركا، يتجاهل ترمب هذه الأدلة لأن الكثير من المستفيدين من هذه السياسات هم بين جمهوره الانتخابي كالمزارعين الذين يعوض ترمب خساراتهم بمساعدات مالية وإعفاءات ضريبية سخية.
ترمب لم يخترع هذا النزوع الانعزالي، بل تولى تمثيله خطابيا وتعزيزه مؤسساتيا
في نطاق أوسع، يمثل هذا النزوع الانعزالي الذي لا يزال راسخا في القاعدة الانتخابية لترمب ردَ فعل مفهوم على سياسات العولمة التي تصدرتها الولايات المتحدة على مدى عقود وهي سياسات تقوم على الانضواء في شؤون العالم ورفع الحواجز بين دوله في سياقات التعاون والتبادل والتشارك في الاستجابة للتحديات وحل المشاكل. يمكن اعتبار الولايات المتحدة أحد أهم المستفيدين، اقتصاديا وسياسيا، من سياسات العولمة هذه، والأرقام الرسمية وغير الرسمية الأميركية تدعم بقوة هذا الاستنتاج.
لكن ترمب لم يخترع هذا النزوع الانعزالي، بل تولى تمثيله خطابيا وتعزيزه مؤسساتيا وبالتالي منحه شرعية سياسية وأخلاقية في الأوساط الشعبية الداعمة له. فالانعزالية تتعمق في أوساط الحزب الجمهوري، جزئيا بسبب استثمار ترمب الشديد فيها. حسب استطلاع جديد أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، ذكر نحو 53 في المئة من الجمهوريين أنهم يعتقدون أن المستقبل الأفضل للولايات المتحدة يكمن في ابتعادها عن الشؤون العالمية وعدم لعبها دورا فاعلا فيها. أشار منظمو الاستطلاع إلى أن هذه هي المرة الأولى منذ نحو نصف قرن تتبنى أغلبية الجمهوريين وجهة نظر انعزالية كهذه.
وعلى عكس الانعزالية المبكرة التي طبعت الولايات المتحدة بعد تأسيسها كبلد في القرن الثامن عشر فصعودا والتي استندت على قراءة واقعية لأوروبا متعصبة ومتحاربة مع نفسها حينها، تقوم الانعزالية الجديدة التي يتبناها ترمب ويرسخها على العداء غير المبرر نحو العالم الخارجي وشيطنة دول هذا العالم وتقديمها على نحو مغلوط، في إطار مظلومية مزيفة، على أنها عالة على الولايات المتحدة وتستغلها عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
يحتاج الزعماء وصناع الرأي الذين يؤمنون بهذه السردية المشوهة ويروجون لها الكثيرَ من الانقطاع المعرفي عن العالم وقدرا هائلا من النرجسية للدفاع عن سردية كهذه وتحويلها إلى سياسات ووقائع. كشخص، لا يفتقد ترمب للاثنين، وعلى نحو مقلق أيضا بخصوص علاقته الإشكالية بالمعرفة. في أثناء حملته الانتخابية الرئاسية في 2016 ضد هيلاري كلينتون، سئُل ترمب في لقاء تلفزيوني عن كتبه المفضلة. كان جوابه المثير والكاشف عن احتفاء بالذات يكاد يكون مَرَضيا هو كتابا: "فن الصفقة" الصادر في 1987، و"النجاة للبقاء في الأعلى" الصادر في 1990. ترمب هو مؤلف هذين الكتابين اللذين كتبهما بمساعدة صحافيين.