أبطال غير خارقين

أبطال غير خارقين

لم تكن مفاجأة أن تذهب أهم جوائز الأوسكار هذه السنة لفيلم كريس نولان "أوبنهايمر" لأننا على ما يبدو سنشهد تحولا في مسيرة السينما الأميركية مع نهاية الربع الأول من القرن الجديد، تحول يجنح إلى الواقعية وطرح المساءلات الكبرى، وأخذ المشكلات الثقافية والفكرية بجدية كافية، بدلا من السير التمجيدية التي تمدح من ليس بماجد، على غرار "إنقاذ الجندي رايان".

كان العقد الماضي من تاريخ السينما الأميركية بامتياز عصر الأبطال الخارقين الذين كنا نقرأ قصصهم في فترة طفولتنا، حينما كانت تترجم وتطبعكتب "الكوميكس" في بيروت والقاهرة وتأتينا في مجلدات. معظم الإنتاج السينمائي الضخم ذهب لتمويل قصص الأطفالهذه وببذخ، ولم يتوقف هذا المد إلا مع وباء كورونا. تبحث في تلك الحقبة عن عمل فني واقعي أو قصة جيدة فلا تجد إلا القليل. لكن هناك كثرة من الأبطال الخارقين وأعدائهم يتبادلون إطلاق الأشعة القاتلة بدلا من الرصاص، ولا شيء غير هذا، لا بناء دراميا ولا قصة إنسانية. ولذلك لم تكن خسارة كبيرة أن تغلق أبواب دور السينما في فترة الحظر، لأن السأم وصل منتهاه.

ويبدو أن قصص "الكوميكس" المصورة أكثر بكثير مما كان يصل إلينا مترجما وأكثر مما نتخيل لأن العقد الأخير الذي أتحدث عنه قدم لنا أبطالا خارقين آخرين لم تكن قصصهم تصلنا عندما كنا أطفالا. في الثقافة الأميركية والأوروبية، البطل الخارق ليس كما نتخيله، بل هو جزء لا يتجزأ من التكوين التربوي والنفسي للمواطن الأميركي، وستجد أن الأكثرية يخبرونك بأن بطلهم المفضل هو باتمان أو كابتن أميركا أو سوبرمان، وكأن هذا من قبيل ملء خانات جواز السفر.

كان العقد الماضي من تاريخ السينما الأميركية بامتياز عصر الأبطال الخارقين

مشكلتي مع سينما الأبطال الخارقين تكمن في أنهم خارقون. يستحيل أن تكون مصدر إلهام، لعدم إنسانيتها، مع أن نيتشه بشّر بالسوبرمان صانع أخلاق القوة. هناك إرادة ترغب في أن يأتي لكي يحل كل المشكلات بضربة من قبضته. لكن هل حقا صدّقت الحضارة الغربية قصة الرجل الخارق الذي ستتقمص هي شخصيته، حيث يسود النبلاء على العبيد والمستضعفين؟ الجواب هو نعم، على الأقل لفترة من الزمن. لكن سرعان ما اتضح أن هناك مشكلة تتعلق بهذا الكائن، إلا وهي أنه مجرد حلم. السوبرمان ليس سوى سخرية الإنسان من نفسه. كاتب يتهكم على بني جنسه. يظهر هذا أكثر عندما تتأمل في الشخصية السرية للبطل الخارق، إنه النقيض، ضعيف وجبان وقد يرتدي نظارة طبية، بينما البطل الخارق لا يعجز عن شيء. لدرجة أن قصته سرعان ما تصبح مملة لأنه قادر على كل شيء وهكذا تنتهي القصة غير الممتعة.

من الذي أراحنا من مهزلة الأبطال الخارقين بحيث فشلت أخيرا أفلام من مثل "فلاش" و"أكوامان" و"شازام" فشلا ذريعا وتكبدت الشركات المنتجة خسائر كبرى. ما السبب؟ إنه الوباء، فيروس كورونا الذي تحطمت على صخوره كل الغطرسة والكبرياء الإنسانية وأدرك الإنسان أنه لن يكون خارقا في يوم من الأيام، فأصبح من الصعب للغاية – سيكولوجيا – إنتاج فيلم جديد عن سوبرمان في المدى المنظور. هذا لا يخلو من دلالة رمزية، فسوبرمان وباتمان وكل الأبطال الخارقين الذين ازدحموا في دور السينما وضاق بهم المكان، بل ضاقت بهم الأرض وهربوا من مواجهة فيروس كورونا، واختبأوا في بيوتهم ولبسوا الكمام وتوقفوا عن المصافحة. لقد هزمت كورونا سوبرمان.

 فيروس كورونا تحطمت على صخوره كل الغطرسة والكبرياء الإنسانية وأدرك الإنسان أنه لن يكون خارقا في يوم من الأيام

في مقابل هذا، كم كانت ممتعة قصص الأشخاص القصار، من أمثال آل باتشينو و داستن هوفمان. طول باتشينو 170 سنتمترا وطول هوفمان 165 سنتمترا ومع ذلك هما حتما في قائمة أفضل ممثلين مروا بالدنيا، وقد كانا طوال الستين سنة الماضية مصدر إلهام للإنسان البسيط العاري من العضلات والهيبة. وبسبب قصرهما عاشا معارك كادا يخسرانها، مثل أن المنتج آلبرت رودي كان رافضا لفكرة إسداء دور مايكل كورليوني لآل باتشينو، لأنه "قزم" على حد تعبيره، ولا يمكن أن يكون بطلا في فيلم مثل "العرّاب". غير أن إصرار المخرج فرانسيس فورد كوبولا هو الذي جعل باتشينو يحظى بالدور.

قبل "العراب" بسنتين، في 1970 قدم دوستن هوفمان شخصية "جاك كراب" الذي رباه سكان أميركا الأصليين وعدّوه واحدا منهم، وأصبح في ما بعد شاهدا على مذابح الجنرال كوستر ضد تلك الأمة المنكوبة. ربما انتظر الجمهور شخصية بطل ضخم ليقوم بهذا الدور، فأفلام الهنود الحمر ورعاة البقر في الغالب تقوم على الرجل الأبيض الضخم الذي يقتل الهنود الحمر بلا هوادة، لكن دوستن هوفمان فاجأهم بأداء إنساني ممتاز في تحفته الخالدة "الرجل الصغير العظيم". فيلم يذكر به إلى حدٍ ما فيلم مارتن سكورسيزي الأخير "قتلة زهرة القمر" فهما يتحدثان عن ذات المأساة في حقبتين متلاحقتين.

وحدهم غير الخارقين يستطيعون أن يكونوا مصدر إلهام كبير لكل إنسان.

font change