اقتنعت إسرائيل بأن "حزب الله" وإيران لا يريدان الانخراط في حرب واسعة النطاق. لا في لبنان ولا في غيره. وأن "المساندة" والمشاغلة على طريقة عمليات "الحزب" من الجنوب اللبناني أو الجماعة الحوثية من البحر الأحمر هو ما يناسب إمكانات طهران بعدما أدركت أن استمرار التصعيد ضد الأميركيين في العراق، على سبيل المثال، ستدفع هي ثمنه.
يرى "حزب الله" أنه يؤدي قسطه إلى العلا بتهجيره سكان عدد من قرى شمال إسرائيل وحجز ثلاث فرق من الجيش الإسرائيلي عن المشاركة في الحرب على قطاع غزة. بيد أن الأمور تحسب بنتائجها. ذلك أن ليس هناك ما يشير إلى أن القوات الإسرائيلية قد خففت ضغطها على القطاع أو أخذت في الحسبان ما يقوم به الحزب في الشمال عند تخطيط عملياتها في الجنوب.
الانزعاج الإسرائيلي من تهجير سكان البلدات المتاخمة للحدود مع لبنان حقيقة قائمة. تعهدات المسؤولين في حكومة بنيامين نتنياهو بإعادتهم إلى منازلهم تصاحبها عادة تهديدات للبنانيين، المواطنين والحكومة سواء بسواء، من أن سكان البلدات الإسرائيلية عائدون لا محالة، سلما أو حربا. يقابل ذلك توزع عشرات الآلاف من اللبنانيين الذين نزحوا عن قراهم الحدودية على مدن أبعد قليلا من حزام النار الذي تنشره إسرائيل في المناطق اللبنانية الحدودية. لا مجال لمقارنة معاناة المدنيين اللبنانيين والإسرائيليين. الأولون يتلقون مساعدات ضئيلة من "حزب الله" أو الجمعيات الأهلية ويقيمون عند أقاربهم أو في مباني المدارس الرسمية في بلد يعاني من سلسلة لا تنتهي من الأزمات الاقتصادية. الآخرون تتكفل الدولة الإسرائيلية بإقامتهم في الفنادق في تل أبيب وغيرها من المدن الآمنة.
إسرائيل قررت الاستفادة القصوى من انعدام القدرة الإيرانية على خوض حرب واسعة
ليس هذا هو الفارق الأهم في القناعة الإسرائيلية بجدية الحدود التي فرضتها طهران على وكلائها في لبنان وغيره. وبغض النظر عن الإعلانات عديمة المعنى عن إنجازات "حزب الله" الميدانية، فإن الفارق الهائل بين عدد قتلاه (أكثر من 220 حتى اليوم) مقابل القتلى الإسرائيليين على الجبهة الشمالية، يقول إن التفوق الإسرائيلي التكتيكي سيتحول مع رسوخ القناعة بعدم الرغبة في تحويل المناوشات إلى حرب مفتوحة، سيتحول إلى تقدم استراتيجي.
كيف ذلك؟ إذا نظرنا إلى ما تعنيه غارات الطائرات الإسرائيلية على مناطق بعيدة عن خطوط القتال في الجنوب اللبناني وآخرها الغارات على قرى في منطقة بعلبك البقاعية، بالإضافة إلى مطاردة مسؤولي "الحرس الثوري الإيراني" إلى قلب العاصمة السورية وتصفيتهم واحدا بعد الآخر، سيظهر أن إسرائيل قررت الاستفادة القصوى من انعدام القدرة الإيرانية على خوض حرب واسعة والعمل في الوقت المتاح على تدمير البنى التحتية لـ"الحزب" في كل المناطق التي يمكن الوصول اليها. حصل الأمر أولا في مواقع بجبل الريحان، ثم في الغازية على طريق صيدا، وأمس في بعلبك، إضافة إلى القصف المتنقل بين المناطق السورية المختلفة.
تبذل إسرائيل جهدا واضحا في تقليص القدرات العسكرية والبشرية التي يملكها "حزب الله"
وجهة النظر الإسرائيلية تقوم على إدراك أن التهديد العسكري الحقيقي لـ"الحزب" يكمن في العنصر البشري الذي يمكن أن يخترق الحدود ويكرر عملية مشابهة لـ"طوفان الأقصى" في منطقة الجليل. المسيرات والصواريخ والأسلحة الأخرى التي يمتلكها "حزب الله" ظهرت محدودية تأثيرها في المواجهات الدائرة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول ولم تكن النتائج باهرة.
عليه، تبذل إسرائيل باغتيالها قادة "الحزب" الميدانيين وتدمير غرف العمليات والتحكم المنتشرة في القرى اللبنانية وقصف مخازن الأسلحة ومراكز الصيانة والمواقع الخلفية، تبذل جهدا واضحا في تقليص القدرات العسكرية والبشرية التي يملكها "حزب الله" وإنشاء وقائع جديدة ترغمه على تخفيض سقف عملياته وبالتالي قدرته على التفاوض حول إنهاء الأعمال العدائية مع إسرائيل قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة. وبما ان لا افق منظورا لنهاية الحرب، يجوز الاعتقاد بحصول المزيد من التصعيد الاسرائيلي مقابل التزام "حزب الله" بقواعد اشتباك صار اسيرا لها.
الحزب مستمر في ازدرائه معاناة اللبنانيين والأضرار المادية التي تفاقم من أزمتهم الاقتصادية المزمنة بذريعة أنه يدفع دما لنصرة غزة. وهو في ذلك يعيد سيرة تفرده في تقرير مصير لبنان على النحو الذي أعاق فيه انتخاب رئيس للجمهورية والتحقيق في تفجير مرفأ بيروت والاستجابة لمطالب مظاهرات 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
فخ جديد آخر أدخلت فيه هذه المجموعة لبنان، دون أي تصور للمخرج.