عندما دخلت الحرب في أوكرانيا عامها الثالث يوم 24 فبراير/شباط الماضي، كانت روسيا قد استعادت المبادرة الهجومية وحققت قواتها تقدما في الجبهة الجنوبية بعد جمود عسكري على خطوط التماس استمر لأكثر من عام. فقبل أيام من انتهاء عام الحرب الثاني تمكنت القوات الروسية من السيطرة على مدينة أفدييفكا التي كانت مركزا للكتيبة الأوكرانية الأقوى في جنوب البلاد. وبدأت في الإعداد للمعارك التالية في إقليم دونيتسك الجنوبي، وسيطرت على قرية بوبيدا الصغيرة التي تقع على بُعد خمسة كيلومترات من مركز هذا الإقليم. وفي مقابل هذا التقدم، تعاني أوكرانيا نقصا في عدد الجنود وبطئا في تدفق الأسلحة من الحلفاء الغربيين، وتراجعا في الثقة التي كانت قد بلغت ذروتها عند الإعلان في مطلع 2022 أثناء الإعداد لما أُطلق عليه هجوم الخريف قبل أن يفشل في تحقيق أهدافه. وهذا فضلا عن صراعات داخلية وامتداد الاتهامات بالفساد إلى داخل الجيش، الذي عُين أولكسندر سيرسكي قائدا جديدا له قبل أسبوعين من دخول الحرب عامها الثالث.
ولكن هل يعني هذا أن روسيا تقترب من تحقيق النصر في الحرب التي لا زالت تسميها عملية عسكرية خاصة، رغم حديث الرئيس فلاديمير بوتين في مطلع العام الجاري عن أن ما سماها المواجهات باتت حربا كاملة مع الغرب؟
نصر تكتيكي يلوح في الأفق
يدل سير المعارك في الأشهر الأخيرة، ومساراتها المتوقعة في الأشهر المقبلة، على أن القوات الأوكرانية تعاني صعوبات متزايدة في سعيها إلى وقف الهجوم الروسي، الذي يرمي إلى السيطرة على مزيد من الأراضي. غير أن البطء الملحوظ في حركة القوات الروسية، والمقاومة الضارية التي تواجهها من الجنود الأوكرانيين، يجعل موسكو بعيدة حتى الآن عن تحقيق نقلة نوعية كبيرة في الميدان تتيح شطر أوكرانيا إلى شطرين. فلا سبيل إلى ذلك إلا بإكمال السيطرة على دونيتسك ولوغانسك وإحكام القبضة على زابوروجيا وخيرسون.
وبالرغم من أن روسيا وسعت رقعة سيطرتها العسكرية بنحو 5 أمثال ما كانت عليه في بداية الحرب، لا يزال حوالي ثلثي دونيتسك و5 في المئة من لوغانسك، ونصف خيرسون، ورُبع زابوروجيا في أيدي القوات الأوكرانية. كما أن تقدم القوات الروسية في إقليم خاركيف شرقي أوكرانيا محدود، إذ لم تسيطر إلا على بضعة جيوب في جنوبه.
ربما تراهن موسكو على نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر
ولكن موسكو ليست في عجلة من أمرها فيما يبدو. وضعها العسكري مريح، رغم أن نتائج الحرب لا تُعد حتى الآن مرضية لها، قياسا على هدفها الأول في الوصول إلى كييف وإسقاط النظام الذي تتهمه بأنه "نازي"، أو هدفها الثاني البديل وهو السيطرة على جنوب وشرق أوكرانيا ومن ثم تقسيمها إلى شطرين.
تستطيع روسيا أن تواصل الحرب لفترة طويلة، وربما تريد الانتظار إلى أن تتداعى معنويات الأوكرانيين، ويقل حماس حلفاء كييف الغربيين للاستمرار في دعمها عسكريا وماليا. وربما تراهن موسكو على نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني. فعدم تفضيلها فوز الرئيس السابق دونالد ترمب، حسب ما قاله بوتين قبل أسابيع، لا يحول دون استفادتها من فوزه بالنظر إلى رغبته المُعلنة في إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وإذا افترضنا أنه فاز، وتحرك في هذا الاتجاه، سيكون موقف روسيا على مائدة المفاوضات أقوى. وربما تسعى إلى المساومة على المناطق المتناثرة التي تسيطر عليها قواتها في شرق أوكرانيا ووسطها وغربها بحيث تنسحب منها في مقابل سحب أوكرانيا ما بقي لها من قوات في المناطق الجنوبية. وفي هذه الحالة تحصل روسيا على المناطق التي أعلنت في 30 سبتمبر/أيلول 2022 ضمها (دونيتسك ولوغانسك وزابوروجيا وخيرسون).
وحتى إن لم تسفر المفاوضات عن اتفاق على أساس صيغة تبادل الأراضي هذه، أو غيرها، ستفوز روسيا بمعظم الأراضي التي سيطرت عليها فعليا. غير أنه سواء أمكن التوصل إلى اتفاق سلام، أو أُوقفت الحرب دون إعلان انتهائها، نتيجة ضغط أميركي مُحتمل على كييف في حالة عودة ترمب إلى البيت الأبيض، لن يكون نصر روسيا كاملا. هو، في هذه الحدود، نصر تكتيكي لا غُبار عليه، ولكنه لا يرقى بأي حال إلى ما طمحت إليه عندما دخلت قواتها أوكرانيا صباح 24 فبراير 2022.
النصر الاستراتيجي لا يبدو ممكنا
سواء أُنهيت الحرب نتيجة تغير جوهري في السياسة الأميركية تجاهها، أو استمرت وتمكنت القوات الروسية من السيطرة على الأجزاء التي لم تصل إليها في دونيتسك ولوغانسك وزابوروجيا وخيرسون، فقد أصبح الهدف العسكري الأصلي وهو الوصول إلى كييف بعيد المنال ما لم يحدث انهيار داخلي مفاجئ في أوكرانيا.
ولكن الأهم من ذلك أن الهدف السياسي- الاستراتيجي، الذي دفع موسكو إلى الحرب، لا يبدو قابلا للتحقق فى أي مدى منظور. فعندما حشدت قواتها على حدود أوكرانيا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021، أرادت في المقام الأول الضغط للتوصل إلى ترتيبات أمنية وضوابط لنشر قوات حلف "الناتو" وأسلحته في شرق أوروبا. وطلبت التفاوض مع كل من "الناتو" والولايات المتحدة للتفاهم على هذه الضوابط وتلك الترتيبات.
كان هدفها حينذاك هو توقيع اتفاق مع كل من واشنطن وبروكسل (مقر قيادة "الناتو") لضمان أمنها الذي اعتبرته مُهددا بشكل متزايد بفعل التوسع المستمر لهذا الحلف، ومن ثم ازدياد عدد الدول التي توجد بها قواعد أميركية في شرق أوروبا. وأعدت مشروعا لهذا الاتفاق نشر على الموقع الرسمي للخارجية الروسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2021، بعد إرساله إلى بروكسل وواشنطن سعيا للتفاوض بناء عليه، تحت عنوان "اتفاق على إجراءات لضمان أمن الاتحاد الروسي والدول الأعضاء في منظمة معاهدة شمال الأطلسي". وحمل ذلك المشروع أهم معالم ما يمكن اعتباره هدف روسيا الاستراتيجي في ضوء رؤيتها لمصالحها الأمنية في أوروبا على المدى الطويل. وهذا هو الهدف الذي حشدت قواتها على حدود أوكرانيا كعامل ضغط من أجله، قبل أن تشن الحرب حين وصلها رد سلبي مؤداه أن المشروع الذي اقترحته لا يصلح بداية لمفاوضات.
الهدف السياسي- الاستراتيجي، الذي دفع موسكو إلى الحرب، لا يبدو قابلا للتحقق فى أي مدى منظور
فقد عبرت مواد المشروع التسع في مجملها عن هذا الهدف، وخاصة الرابعة والسادسة والسابعة. ففي المادة الرابعة "لا يجوز للاتحاد الروسي وكذلك جميع الدول التي انضمت إلى (الناتو) اعتبارا من 27 مايو/أيار 1997، نشر قوات عسكرية وأسلحة على أراضى أي من الدول الأخرى في أوروبا بخلاف القوات التي كانت موجودة في ذلك التاريخ".
ونجد الأهم في المادة السادسة التي نصت على أن "تلتزم جميع الدول الأعضاء في (الناتو) بالامتناع عن أي توسيع إضافي لهذا الحلف، بما في ذلك انضمام أوكرانيا وأية دولة أخرى"، وكذلك المادة السابعة: "تلتزم الدول الأعضاء في (الناتو) بعدم ممارسة أية أنشطة عسكرية في أراضي أوكرانيا والدول الأخرى في شرق أوروبا، وجنوب القوقاز، ووسط آسيا".
وعندما نعود إلى الخطاب الرسمي الروسي في نهاية 2021 ومطلع 2022 نجد أنه ركز في ترتيب الأوضاع مع "الناتو" وفقا لتصور موسكو لهدفها الاستراتيجي، أكثر مما انصب على أوكرانيا التي تعاملت معها بوصفها ساحة لإدارة الصراع وممارسة الضغط لتحقيق هذا الهدف. وكانت الحرب بالتالي ردا على رفض الغرب التفاوض معها على أساس ما تصورت أنه يُحقق هدفها الاستراتيجي ويضمن بالتالي مصالحها الأمنية. لكن الحرب لم تُقربها من هذا الهدف. صحيح أن سيطرتها على معظم مناطق جنوب أوكرانيا يجعل "الناتو" غير قادر، أو أقل قدرة، على نشر صواريخ في مواقع قريبة جدا من حدودها. لكن في المقابل ربما يُشكل انضمام فنلندا والسويد إلى "الناتو"، خشية أن تلقيا مصير أوكرانيا، خطرا أكبر على روسيا إذا استمر الغرب في رفض التفاوض بشأن ترتيبات الأمن التي طرحتها عشية الحرب.
وهكذا، فإن لم يستطع الغرب تغيير الأمر الواقع الجديد الذي يمنح روسيا نصرا تكتيكيا، وهو الاحتمال الأرجح، ففي إمكانه أن يحرمها من تحقيق نصر استراتيجي. غير أنه سيكون على قادة دول الحلف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أن تحسب بأكبر قدر من الدقة عواقب استمرارها في الامتناع عن إيجاد ترتيبات أمنية تعاقدية مُرضية لروسيا ومحاولة توقع كيف سيتصرف بوتين إن رأى أن النصر التكتيكي لا يتناسب مع الموقع الذي يتطلع لأن يشغله في تاريخ روسيا وبين قادتها الكبار الذين يُعجب بهم وخاصة كاترين الثانية وبُطرس الأكبر.