في وصفه للعلاقة بين الضحية والجلاد، يقول كنعان مكية في كتابه "جمهورية الخوف": "إن ضحايا القسوة والظلم ليسوا أفضل من معذبيهم. بل إن وضعهم في العادة ليس أكثر من مجرد انتظار لتبادل الأدوار معهم".
عندما قرأت التوصيف في كتاب مكية لأول مرة بعد 2003، لم يدر في مخيلتي أنني سأستحضره عام 2024، إلا بعد أن وجدت تطابقه مع محاولات البعض من السياسيين في العراق توجيه بوصلة النقاش من كشف ملفات الفساد إلى اعتبارها تجاوزا على "الذات السياسية" التي يراد منا أن نتعامل معها وفق مبدأ العصمة من الفساد. ومن ثم بات تقييد حرية الرأي هو السلاح الذي يرفع في وجه كل من يناقش فساد قوى السلطة وحاشيتها.
تجيد قوى السلطة وحاشيتها باحترافية عالية حرف أنظار الرأي العام عن المواضيع التي تسبب إزعاجا للطبقة الحاكمة، والحديث عن الفساد هو الأكثر إزعاجا لها، لذلك باتت توظف عنوانا عاما اسمه "الابتزاز السياسي" في مقابل "الفساد السياسي". الأول هو تهمة توجه لإعلاميين ومدونين وناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي. والفساد السياسي اتهام يوجه لمن هم في السلطة أو مؤثرين فيها ويتجاوزون على المال العام ويستغلون المنصب السياسي. لذلك أصبحت هذه المناورة التي تريد أن تسوق للرأي العام أن أغلب من يتحدثون عن الفساد السياسي عند الطبقة الحاكمة ليست غايتهم كشف الحقيقة وإنما ابتزاز السياسيين و"تشويه سمعتهم".
لا نحتاج الكثير من النقاش بشأن الحدود الفاصلة بين "السب والقذف" حسب التوصيف القانوني للإساءة إلى الأشخاص وبين النقد الذي يوجه إلى سلوك سياسي لشخصية تتصدى للعمل السياسي. فالنقد هنا يكون موجها للأداء والإدارة، وعندما يوجه اتهام بالأدلة والوثائق لإثبات شبه الفساد أو سوء الإدارة، عندئذ تكون مسؤولية السلطات المعنية بمكافحة الفساد متابعة الموضوع. لكن الذي يحدث في العراق في الأيام الماضية هو محاولات لاستغلال السلطة والنفوذ السياسي نحو تقييد حرية الانتقاد أو كشف ملفات الفساد.
بدأت الحكاية مع انزعاج رئيس جمهورية العراق من تقرير قدمه الإعلامي العراقي الدكتور حميد عبدالله في قناته "هذه الأيام" على "يوتيوب"، تحدث فيه عن وجود مخالفة قانونية بتأجير بيت رئيس الجمهورية للسفارة الكويتية في العراق، وهذا مخالف للقانون العراقي. ليتم توجيه حملة بلاغات ضد قناة الدكتور حميد عبدالله ويتم إغلاقها.