حينما كانت "دار توبقال" للنشر تطلب رأيي في عزمها على تقديم كتاب من كتبي إلى جائزة من الجوائز لم تكن تجد عندي الحماس المناسب. لم يكن ذلك راجعا فقط إلى حجم تلك الكتب وشكلها، وإنما أساسا إلى ما يطبعها من ابتعاد عن الكتابة الفلسفية المعهودة، وميلها إلى تجميع ومضات فكرية،لا تخضع لقواعد التأليف المعهودة، وخصوصا الفلسفي منه. وربما كذلك لأن تلك الومضات كانت تتخذ وسائل نشر منابر ما كانت الفلسفة لترضى بها حتى وقت غير بعيد.
لن يتعلق الأمر بطبيعة الحال، بعرض نظري حول الكتابة الشذرية تبريرا لها، والتوقف عند المفكرين الذين أرسوا أسسها الفلسفية ابتداء من الرومانسيين الألمان حتى رولان بارت، اذ أن ذلك لن يكفي لتبرير ما إذا كان هذا الشكل هو الطريق الملائم للكتابة الفلسفية في عالمنا العربي الذي يظهر أنه في حاجة ماسة الى كتابات تمهيدية تعليمية تحترم قواعد التأليف والنشر المعهودين.
يجد هذا الأمر بعض مبرراته إذا استحضرنا خصوصية الممارسة الفلسفية عندنا وما تعرفه من صعوبات تتمثل أساسا في غياب الدرس الفلسفي في كثير من معاهدنا التعليمية، وهذا رغم التحول الذي طبع العقد الأخير الذي يبشر بوضع مخالف. وعلى رغم ذلك، فإن برامجنا ما زالت بعيدة عن مستجدات الدرس الفلسفي، فضلا عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة، الأمر الذي يضع عراقيل في وجه ممارسة الفلسفة تفكيرا وتدريسا، وربما كتابة وتأليفا.
برامجنا ما زالت بعيدة عن مستجدات الدرس الفلسفي، فضلا عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة
قد يبدو مبررا أولَ اذا لممارسة الفلسفة على هذا النحو، وانتهاج هذه الطريقة في الكتابة التي لا تخضع لقواعد الدرس والتأليف التقليديين، هو ايجاد منفذ يجعل كل هذه العوائق التي أشرنا اليها لا تقف حجر عثرة إلا أمام شكل من أشكال الممارسة الفلسفية، أي ما يدعى عادة كتابة أكاديمية، أعني تلك الكتابة التي تحرص على توظيف معرفة فلسفية، وتنصب على تاريخ الفلسفة وتنقب في نصوصه. لكننا نعلم أن تاريخ الفلسفة ذاته، غربيه وعربيه، قد عرف ممارسات وأشكالا للكتابة على هامش ما يمكن أن ندعوه تاريخا رسميا. وحتى التفكيكية ذاتها، التي يعرف عنها أنها فلسفة الحفر في النصوص وتاريخها، والتي ترعرعت في حضن المدرسة العليا للأساتذة بفرنسا، أي داخل فضاء تعليمي يولى أهمية قصوى للنصوص والتنقيب فيها، حتى التفكيكية لم تنشغل في فضاءات أخرى بهذا الهوس التأريخي، بل إنها ربما لم تجد امتداداتها بعيدا عن موطنها، وأكاد أقول، الا بعيدا عن موطنها، في أقسام الدراسات اللغوية والأدبية. ولعل في هذا المثال ما يفتح للفلسفة في عالمنا العربي منافذ أخرى غير المنافذ المعهودة، ويجعلها منفتحة على النص الأدبي، كما يجعلها نوعا من سيميولوجيا للحياة اليومية التي تزخر بالدلالات والعلاماتبهدف مقاومة الترهات وفضح أشكال البلاهة التي قد لا تكفيها رصانة العقل الديكارتي، ولا حتى صرامة النقد الايديولوجي وشراسته، والتي قد تحتاج ربما لعقلانية ساخرة تقف عند ومضات الحياة المعاصرة، لا لتترصد أخطاء المعارف، ولا لتكتفي بفضح أوهام الأيديولوجيات، وإنما لترصد "منطق الخلل" الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها. الا أن ذلك لا يعني البتة إهمالا للفلسفة وتاريخها، وللحوار مع الآخر ونقل أمهات كتبه. فليست السخرية المقصودة هنا استهتارا، وليست محاولةُ رصد منطق الخلل خللا منطقيا. كل ما في الأمر هو أن النص الكلاسيكي، مضمونا وشكلا، ربما لم يعد كافيا لمتابعة نبضات الحياة المعاصرة، وأن الوقوف عند تلك النبضات يقتضي كتابة ليست أقل رصانة، وانما أقل رزانة، وأقرب الى المرح واللعب. انها كتابة فلسفية قادرة على حد تعبير م. بلانشو:" أن تجمع بين الكلام والصمت، بين الجد والهزل، بين الحاجة الى التعبير وتردد فكر موزع لا يقر له قرار، بين رغبة الفكر في أن يعمل وفق منهج ونظام، وبين نفوره من المنظومة والنسق".
ليست هذه الكتابة مجرد شكل، وإنما هي أيضا محتوى ومضمون فلسفي ومنهج في التفكير، فضلا عن كونها أسلوبا في الكتابة. إنها منهج يقوم أساسا على المفارقة، ويجمع في الآن نفسه بين الاثبات والتردد، بين اليقين والارتياب، بين التنوع والوحدة، بين الافصاح والإضمار، بين الجد والسخرية، بين النظام والخلل، بين الانفتاح والانغلاق.
كل ما في الأمر هو أن النص الكلاسيكي، مضمونا وشكلا، ربما لم يعد كافيا لمتابعة نبضات الحياة المعاصرة
إن الرابطة بين الأجزاء تعود هنا، وكما أشار بارت ذات مرة، تعود إلى تكرارها واصرارها. المعاني تتوالد، لا لتشكل وحدة متراصة، وإنما لتتناسل بفعل إحالة بعضها لبعض، وربما الأفضل أن نتحدث هنا عن الصدى بدل الاحالة. المعنى قد يحدد ما تقدمه، إلا أنه قد يرد الى/أو يردد صدى ما هو أبعد منه. ما أبعدنا إذا عن الفصول والتبويبات والتقسيمات المعهودة، وعن الفلسفة-المعرفة، والكتب-المشاريع.
هي إذن كتابة تعرض نفسها وهي تكتشف. فهي تكتشف عندما تكشف. إنها توحد بين ما ندعوه مسودة وما ندعوه مبيضة. لنقل إننا أمام مبيضات قابلة للتسويد في أي لحظة، أمام مختبرات فكرية، وكتابة مستأنفة تتحدى أنماط الزمن التقليدية.
ثم إنها كتابة مشاغبة، إلا أنها، قبل أن تزعج ما عداها، فهي تستفز ذاتها. من هنا تلك الحركية المقصودة، وذلك الغليان الذي يتابع خطى الفكر الذي ما يفتأ يرجع القهقرى كي يعيد النظر في مسلماته.
لا يعني ذلك مطلقا أن مرمى هذه الكتابة الارتماء في تشتت مبعثر ينفي كل معقولية. فهي لا تتوخى إلغاء الحد وتفتيت الهوية. إن مرماها فحسب هو أن تجعلهما حركة وليس سكونا، خطا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، تعددا وليس وحدة، اختلافا وليس تطابقا، نسيانا وليس ذاكرة.