تترف المراسلات بين الكتاب بهوامش مضيئة، ذات طبيعة حميمة، شخصية، وفي الآن نفسه هي محض وثائق بمحمولات ثقافية، معرفية وفنية، والأهم ما تفصح عنه من إيقاع الحيوات وعزلة الذوات ومجمل تفاصيل اليومي... والمراسلات إذ تكرست في صورتها الأصلية كأسلوب من أساليب الصداقة بين الكتاب، وجها من وجوه التواصل الإنساني والأدبي فيما بينهم، فقد تحولت إلى تقليد أمسى مستقلا يستدعي القراءة الممعنة، ولهذا يحفل عالم النشر بالكثير من الأعمال الصادرة لمراسلات قيمة، ذات جاذبية خاصة، تغوي قارئها باكتشاف مناطق مثيرة من سير هؤلاء الكتاب، وكذا التعرف عن كثب، عما خفي من تجاربهم ومعارفهم وذائقتهم، طرق اشتغالهم وطقوس كتابتهم وأشكال صداقاتهم ومجمل أحداث ووقائع سيرهم الموشومة، كذا عن أسفارهم ومواقفهم من هذه القضية وتلك.
يمكن فرز ثلاثة مناح من طبيعة وإبداعية هذا النوع من الكتابة التراسلية:
أولا، تراسل بين الكتاب يغلب القيمة الأدبية واللغوية والفكرية، على أي شيء آخر، إذ كانت الرسائل نوعا أدبيا مستقلا بذاته، له قواعده وأساليبه الخاصة في الكتابة، فقد يطول متن الرسالة الواحدة ليكون محض كتيب وهذا ما نلفي له نماذج استثنائية في التراث النثري العربي، خاصة في القرن الرابع الهجري، من الحقبة العباسية الشهيرة بطفرات ثقافية كبرى، شعرا ونثرا، فكرا وترجمة، محاورة ونقدا. وألمع المراسلات الموشومة في هذه الفترة بين الأدباء يمكن الإشارة إلى مراسلات يحيى بن زياد الحارثي وعبد الله بن المقفع، مراسلات أبي حيان التوحيدي وابن العميد، مراسلات الجاحظ وأحمد بن داوود، مراسلات الهمذاني وأبي نصر بن المرزبان. وفي الفترة الأندلسية يمكن الإشارة إلى مراسلات ابن برد الأصغر وابن جهور، مراسلات الباجي وابن هود، مراسلات ابن حزم وأبي بكر بن إسحاق، مراسلات ابن الدباغ وابن حسداي.
هذا النوع من التراسل مزدوج في صنفيته، فليس بالضرورة أن تكون الصداقة دائما هي المعدن الخالص الذي تستند إليه الكتابات المتبادلة
هذا النوع من التراسل مزدوج في صنفيته، فليس بالضرورة أن تكون الصداقة دائما هي المعدن الخالص الذي تستند إليه الكتابات المتبادلة، بل نجد أمثلة لعداوات بين الكتاب، وقد تراسلوا من منطلق احترابي، تنابزي، خلافي، خصومي، وتأرجحت رسائلهم بين أدبيات الجدال والسجال والمجابهة من جهة، وبين الانزلاق إلى الهجائيات التي لم تجانب حضيض الشتائم والقدح والمذمات من جهة أخرى، كمراسلات الحصري وابن الطراوة النحوي.
ثانيا، مجمل المراسلات في البدء كانت عملا في الصداقة، لم يرد بها إخراجها مسبقا للنشر، حتى أن نماذج من هذه المراسلات صدرت بعد موت مؤلفيها، ولو كانت النية مسبقة في إخراجها للعلن لكانوا هم أنفسهم أصدروها وهم قيد حياتهم، وهذا ما يحفظ لهذه الأعمال أصالتها، صدقها وزخمها الوجودي، مثل مراسلات غورغي وتشيخوف، كاوباتا وميشيما، توماس مان وهرمان هسه، وليام فوكنر وهنري جيمس، جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، حنا أرندت وماري مكارثي، خوليو كورتاثار وأليخاندرا بيثارنيك، غارسيا ماركيز وكارلوس فوينتيس.
ثالثا، ما أن تحولت المراسلات إلى تقليد، بات هاجس النشر ملازما لها بشكل من الأشكال، وهذا ما حدث مع الكثير من النماذج المعاصرة، لكتاب نشروا مراسلاتهم قيد حياتهم مثل: مراسلات محمود درويش وسميح القاسم، مراسلات محمد شكري ومحمد برادة، مراسلات بول أوستر وكويتزي.
غير أن المراسلات بين محمد شكري ومحمد برادة، التي صدرت موسومة بعنوان "ورد ورماد"، لحقها ما يشبه اعتراضا أو تعقيبا بالأحرى من محمد شكري إذ أفصح في حوار تلفزيوني حينما كان يراسل محمد برادة، إنما كان يكتب بتلقائية، بصدق اللحظة وما يقتضيه حال الصداقة فيما بينهما، مقتصرا على إخباره بتقلبات أحواله، قلق معيشه، ومآزق وجوده، منشوراته، جديد كتابته، يومياته الصاخبة، عزلته وخمرياته. ولم يخطر في ذهنه أن الرسائل مكتوبة بهاجس النشر لاحقا كما هو الحال سلفا عند محمد برادة، إذ أن هذا الأخير كانت نواياه المسبقة وهو يكاتب الأول، رهينة بإخراجها للعلن لاحقا، وهذا ما يبرر عنايته المتأنقة فيما كتبه، بينما جاءت رسائل شكري مكثفة، مكتوبة بعفوية، كيفما اتفق، بحسب قلق اللحظة، وإيقاعها المارق.
لا تخرج المراسلات الغرامية بين الكتاب أيضا عن هذا المنحى، فكيفما كانت بالغة الخصوصية، بمدارها العاطفي الجارف، فيتألق في حواشيها ما هو إنساني وشعري وفلسفي، وهذا ما نصادفه في مراسلات مي وجبران، ريلكه ومارينا تزفيتاييفا، هايدغر وحنة أرندت، نيتشه وسالومي.
ما من كتابة خاصة كالرسائل، إلا وهي منطقة المرايا التي قلما يقترف فيها الكاتب كذبا مطلقا
وغير بعيد عن المراسلات الثنائية الشهيرة، فقد عرف عن كتاب بعينهم وفرة الكتابة إلى كثيرين، مواظبين على ذلك أطول ما يكون، ومنهم جورج أورويل وهمنغواي وفرويد وفتغنشتاين.
ما تكتنزه معظم نماذج الكتابات التراسلية بين الكتاب، ثنائية كانت أو متعددة الأطراف، غرامية كانت أو تحتكم لمبدأ الصداقة، أدبية كانت أو سجالية وغيرها، تثير الفضول كهامش مثير، توقظ الرغبة في اكتشاف الوجوه الخفية لهؤلاء الكتاب، معرفة الغامض والمجهول في حيواتهم المسورة بالكتمان والصمت والظلال. ولذا فالغالب أن هذه المراسلات لا تبزغ إلا بعد موت أصحابها، وحتى إن ظهرت للعلن وهم قيد حياتهم، وهذا استثنائي، فللأمر مسوغ يتأرجح بين الضرورة التاريخية والسياسية بمضمونها الجمالي المقاوم (حالة محمود درويش وسميح القاسم)، وبين الضرورة الثقافية (حالة بول أوستر وكويتزي).
مهما يكن من أمر، فما من كتابة خاصة كيفما كانت طاعنة في السرية إلا وأحد مصائرها السوداوية أن تخرج للعلن بشكل أو بآخر.
ما من كتابة خاصة، الرسائل والدفاتر والمسودات، إلا وتستأثر بغواية الاكتشاف من طرف المهتمين بالكاتب، قراء ونقاد على حد سواء، إذ ما من شيء يتفرد بمنح صورة أقرب إلى حقيقة الكاتب من رسائله، ويومياته.
ما من كتابة خاصة كالرسائل، إلا وهي منطقة المرايا التي قلما يقترف فيها الكاتب كذبا مطلقا.