التراجم العربية
وإذا كانت "اعترافات" القديس أوغسطين التي كتبت في بدايات القرن الخامس الميلادي، تعدّ أول سيرة ذاتية غربية، وكتاب جيمس بوزويل، "حياة صموئيل جونسون" (1791)، يعدّ أول سيرة غيرية، فإننا نجد لفن السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، عند العرب، مكانا ومكانة واضحين، سواء عبر كتب التراجم المعروفة التي تناولت سير مجموعات من الشخصيات في عصور وحقب محددة، ومنها "طبقات الصحابة" و"طبقات فحول الشعراء" و"الأغاني" و"وفيات الأعيان" و"بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس" و"الصلة" وغيرها الكثير، أو تلك التي تناولت شخصية بعينها، ومنها كما أسلفنا السيرة النبوية و"مناقب الإمام" و"التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا" و"أخبار أبي نواس" و"طوق الحمام" لابن حزم الأندلسي، أو تلك السير الشعبية الأسطورية مثل سير عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس، أو التي تضمنت سيرا ضمنية جزئية كالتي نراها في أدب الرحلة، امتدادا إلى القرن العشرين حيث تحول فنّ كتابة السيرة، كما في العالم أجمع، إلى فنّ شعبي يتمتع بجاذبية قرائية عالية وإلى نوع أدبي راسخ، سواء جاء على هيئة مذكرات أو شهادات تتنوع أسلوبيا بين الأسلوب الأدبي والروائي والأسلوب الصحافي، وبعض كتّابه الأشهر عربيا طه حسين وأحمد أمين والعقاد وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ونجيب الريحاني ولطيفة الزيات وعبد الرحمن بدوي وغازي القصيبي وإدوارد سعيد ومحمد شكري وغيرهم العشرات إن لم يكن المئات.
مع ظهور فنّ السينما، كان بديهيا أن تكون السيرة جزءا لا يتجزأ من عالمها وسردياتها، فمثلما جذبت سير العظماء والشخصيات التاريخية وقصص العشاق والأبطال جلساء المجالس والمقاهي طوال قرون، جاءت السينما (ومن بعدها الإذاعة والتلفزيون واليوم مقاطع الفيديو القصيرة عبر "يوتيوب")، لتتخذ باكرا من تلك السير مصدرا أساسيا من حكاياتها. وعلى الرغم من أن كلمة biopic نفسها لم تشهد رواجا حتى نهايات القرن العشرين، فإن نحتها يعود إلى 1945 بحسب قاموس أوكسفورد، ككلمة تجمع بين السيرة biography والفيلم picture. ويرجع المؤرخون الفنيون أول إرهاص لسينما السيرة إلى فيلم ألفرد كلارك، "إعدام ماري ستيورات ملكة اسكتلندا" (1895)، الذي أنتجه توماس إديسون، والبالغة مدته 18 ثانية فقط، لتكرّ من بعده سبحة الأفلام السيرية: "جان دارك" (1900)، "حياة موسى" (1909)، "الملكة إليزابيث" (1912)، "حياة وأعمال ريتشارد فاغنر" (1913)، "كليوباترا" (1917)، "آل روزفلت المقاتلون" (1919)، "نابليون الصغير" (1923) إلخ، وقد بلغ عدد الأفلام السيرية المنتجة هوليووديا فحسب بين 1927 و1960 أكثر من 300 فيلم، مع زهاء عشرة أفلام تنتج في العام الواحد أحيانا.
توظيف
أما عربيا، فلا يبدو أن السيرة الذاتية احتلت الأهمية ذاتها التي رأيناها في الغرب، ولعلّ أحد أسباب ذلك يعود إلى صعوبة إنتاج هذا النوع من الأفلام. ففي حين رأينا أن كثيرا من أفلام السيرة الذاتية الغربية (الأميركية والأوروبية) يستند إلى مؤلفات، سواء خيالية (روائية) أو تأريخية أو صحافية تلقى رواجا واسعا، فإن هذا المنتج ظلّ محدودا على مساحة النشر العربية، والسبب الآخر الأهم هو الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، الذي يجعل من الصعب فتح النقاش حول الشخصيات التاريخية أو "الإجماع" حول شخصية من الشخصيات. لكننا مع ذلك رأينا عددا من المحاولات، تركز معظمها في مصر، مع أفلام مثل "خالد بن الوليد" (1958) و"جميلة" (1958) و"الناصر صلاح الدين" (1963) و"سيد درويش" (1966) (جميعها تبدو نتاجا للمرحلة العروبية الناصرية)، ولعل مخرج اثنين منهما (جميلة والناصر صلاح الدين)، أي يوسف شاهين، بإنجازه سلسلة أفلام السيرة الذاتية بداية من "اسكندرية ليه" (1978) وصولا إلى "المهاجر" (1994) الذي استلهم سيرة النبي يوسف، و"المصير" (سيرة ابن رشد، 1997)، كان جزئيا يقوم بمراجعة ذاتية للحقبة الناصرية نفسها وللواقع السياسي المصري والعربي بعد مرحلة الثورات وما عرف بـ"الناصرية".
في هذا السياق يبدو لافتا الجهد الذي بذله المخرج حسن الإمام بإنجازه أفلاما تناولت سير فنانات في الرقص الشرقي والطرب، "شفيقة القبطية" (1963) و"بديعة مصابني" (1975)، و"سلطانة الطرب" (سيرة المطربة منيرة المهدية، 1979)، وهو شبيه بالاتجاه الذي حاول الممثل أحمد زكي في مرحلة لاحقة تكريسه عبر أفلام سيرية مع عدد من المخرجين تناولت سير جمال عبد النصر وعبد الحليم حافظ وأنور السادات وكان يبدو أنه يعتزم مواصلته بفيلم رابع على الأقل عن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، لكن وفاته المبكرة حالت دون ذلك.
الجدير ذكره في هذا السياق أيضا أنه، وفي حين لم تتحول أفلام السيرة إلى أن تكون خطا إنتاجيا مستداما في السينما العربية، فقد وجدت ولا تزال تجد حيزا واسعا جدا في الدراما التلفزيونية، ومن المفارقات أن إحدى أبرز الشخصيات التي وجدت طريقها إلى الشاشة الصغيرة هي سيرة طه حسين في مسلسل "الأيام" (1979)، وقد تلقى هذا النوع دفعة كبرى عبر المسلسلات الدينية والتاريخية في شهر رمضان، بداية من مسلسل "محمد رسول الله" (1980) ثم عبر المسلسل السيري الأشهر "رأفت الهجان" (1988)، لتتوالى بعد ذلك مسلسلات السيرة حتى باتت جزءا راسخا في الدراما الرمضانية السنوية. ولعل من أسباب الميل إلى إنتاج هذه المسلسلات هو شعبيتها وضخامة إنتاجها غالبا، ناهيك بتناسبها مع الأجواء الدينية والروحانية، خصوصا عندما تعالج قصص شخصيات دينية معروفة.
أورسون ويلز وتغيير الاتجاه
على الرغم من أن فيلم أورسون ويلز الأيقوني، "المواطن كين" (1941)، ليس فيلما سيريا بصورة مباشرة، لكن من المعروف منذ صدوره، أنه يروي قصة حياة قطب الإعلام والمال وليام راندولف هيرست الذي توفي بعد عشر سنوات من صدور الفيلم، ولعلّ كونه كان لا يزال على قيد الحياة عند إنجاز الفيلم هو السبب، لأسباب محض قانونية، وراء هذه التورية. لم يكن "المواطن كين" أول فيلم يتناول شخصية خلافية أو "شريرة"، فلطالما جذب هذا النوع من الشخصيات مخيلة السينمائيين، ومنهم تشارلي شابلن الذي أنجز في الفترة نفسها تقريبا "الديكتاتور العظيم" (1940) مستلهما شخصية أخرى كانت لا تزال حية وهي الديكتاتور النازي أدولف هتلر، وقبل ذلك بثماني سنوات كان هوارد هوكس استلهم قصة حياة الخارج على القانون آل كابون في فيلم "ذو الندبة" (1932)، الذي يحظى بحصة الأسد بين الشخصيات الإجرامية التي أنجزت أفلام عنها (أكثر من ستة أفلام).