مؤلف موسيقي وقائد أوركسترا، وعالم فيزياء، وقائد نازي، ثلاث شخصيات تاريخية تتنافس سيرها السينمائية، بين أفلام أخرى، على مختلف جوائز الأكاديمية الأميركية (الأوسكار) 2024، من ضمنها جائزة أفضل فيلم. وإن لم يكن الفوز بهذه الجائزة الأخيرة من نصيب أحد هذه الأفلام الثلاثة، فالأرجح أن يكون من نصيب "قتلة زهور القمر" لمارتن سكورسيزي الذي لا يبتعد بدوره تماما عن جنس السينما السيرية Biopic، وإن كان لا يصنّف تقنيا ضمن هذه الفئة. فهو لا يروي سيرة شخص بعينه، بقدر ما يروي سيرة "أمة الأوساج" مع جرائم الرجل الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية.
لطالما كانت السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، مثار اهتمام الكتاب والفنانين وجمهور القراء والمشاهدين على امتداد تاريخ الكتابة والفنون. فنجد أشكالا من السيرة في الكشوفات الآثارية (أوصاف ملوك وملكات الفراعنة المدونة على الأضرحة)، إلى الأساطير (غلغامش)، إلى ما حفل به التراث اليوناني والروماني من سير الأبطال والقادة والفلاسفة، مرورا بقصص الأنبياء والرسل في الأديان السماوية الثلاثة، وصولا إلى السيرة النبوية لابن هشام، ثم ما سمّي طويلا في التراث العربي القديم بالتراجم، بما في ذلك سير وتراجم بعض أبرز الشعراء العرب. بل إن السيرة بوصفها "الطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان"، كما جاء في "لسان العرب"، يمكن إرجاعها زمنيا إلى بداية وعي الإنسان بذاته وبفكرة نقل ذينك الطريقة والحالة إلى من يأتي بعده، وهو ما نراه متجسّدا بصورة أولية في رسوم الكهوف التي يعود أقدمها (في إسبانيا) إلى نحو 64 ألف سنة.