ترتبط الرواية بالمجتمع الذي تنبثق منه الأحداث بظروفها، ليتفاعل هذا الارتباط بالأرض بين النثر والخيال، ارتباطا سرديا وثيقا، كما فعل الروائي باسم خندقجي، وهو سجين فلسطيني، يقضي المؤبد في سجون الاحتلال، بتهمة الإرهاب نتيجة ثلاث قضايا، وأحكام أخرى، وأصعب ما فعله الروائي باسم، على نحو خاص، أن يكتب رواية في فترة سجنه وعلى الرغم من المراقبة الشديدة، وينتج رواية أدبية مهمة بعنوان "قناع بلون السماء"، والتي قام بتدوينها وتهريبها من خلال قريبه، لتطبعها "دار الآداب" اللبنانية وتُحلق الرواية لتصل إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية.
رواية "قناع بلون السماء" تناضل خيالا وفكرا وحبا للأرض، من خلال بطل الرواية نور وهو شاب فلسطيني مسّه شغف الأرض وافتتن باللقى، فتخصص التاريخ والآثار، ولأنه قارئ ومثقف زادت رغبته بكتابة رواية عن مريم المجدلية، يريدها بعيدة عن سياق رواية "شفرة دافنشي" لدان براون، وروايات أخرى تدور حول المجدلية بشكل مختلف قرأها كلها ولم يقتنع بها، مؤكدا أنه الأَولى في كتابتها لانتسابه للأرض ذاتها، حيث تربطه علاقة عاطفية عميقة بمدينة القدس، وأنه بإمكانه التحقق حول نهاية المجدلية، فهو ابن المكان ومتخصص، وكل ما رغب فيه هو الدخول إلى المناطق الأثرية، بحثا وتنقيبا، وبلا شك هذا يمثل صعوبة لأي فلسطيني للولوج إلى آثار القدس وما حولها من قرى تحت إدارة الاحتلال.
أراد البطل نور أن يتتبع الآثار قبل أن يكتب الرواية التي تسكنه ولا تبارحه، لعله يصل إلى لغز المجدلية، حتى يجد يوما في سوق الخردوات وفي جيب معطف تم بيعه، بطاقة ضائعة أو ربما منسية وهي هوية إسرائيلية زرقاء اللون، كانت بحالة جيدة، ضيعها أشكنازي يهودي يدعى أور، والصدفة أيضا أن معنى اسم أور هو ذات المعنى بالعبرية لاسم نور بالعربية، وهذا الأخير أشقر الملامح شأنه شأن الأشكناز، وبعد تفكير قرر أن يتقمص شخصيته بتغيير الصورة، فالملامح متشابهة كذلك، وهو يتقن اللغة العبرية والإنكليزية وهي فرصة له لالعبور إلى المعاهد الأثرية، أو الذهاب مع السواح الأجانب ليشرح لهم بوصفه مواطنا إسرائيليا يدعى أور، ويعرج في سرده إلى تبيان الفرق بين المخيم والغيتو اليهودي في أوروبا، وهو الفرق في القدرة على أسطرة المأساة والإمعان في تخيلها، فهم أسطروا وتخيلوا كما يجب إلى الحدّ الذي خلقوا فيه مخيما وشتاتا ولجوءا، لنور وأمثاله.
رواية "قناع بلون السماء" تناضل خيالا وفكرا وحبا للأرض، من خلال بطل الرواية نور وهو شاب فلسطيني مسّه شغف الأرض
تبدأ الرواية بهذه المغامرة السياحية حتى يصل نور إلى المشاركة في أعمال الحفر مع المتطوعين من دول غربية، وإحداهن فلسطينية بهويتها الأصلية تدعى سما.
لم تكن ثمة صدّ أو منع أو شك من أحد، سوى من نفسه طوال السرد وهو يحاور عقله وقلبه حوارا داخليا مُتعبا وصعبا، بين نور الحقيقي وأور الذي يعرفه ولا يعرفه، والقناع الذي أوجده، وصراع بين الهوية والداخل والملامح، وبين الكذب والصدق، وبين الأحقية والامتناع، يواجه به نفسه في كل حين، لتمضي الرواية بأحداثها دون أن يغفل تمثيل الدور خلال مغامرته، فإلى أين يذهب نور بأور؟ وكيف يفسر الأطلال والوطن وهو يتتبع آثار المجدلية؟ لتسيطر عليه التناقضات والترهات النابعة من هذا القناع الذي وضعه، موضحا كيف يلعب القناع دورا في السيادة السياسية، والسيادة في الرواية قناع.
الروائي باسم خندقجي ينتمي إلى العائلات المثقفة التي يتمتع أفرادها بالتقدم الفكري والنضالي في فلسطين، محولا من خلال هذه الرواية سجنه إلى عالم مفتوح، وكما يقول في روايته وكأنه يعبر عن نفسه:
"كم حُر سجين عالمه، وكم سجين حر! يبقى السجن الأصغر في واقع حديدي، ولكن هناك السجن الأكبر، فالسجن أفظع واقعة في الحياة، تحبس نفسك به، أنت تصنعه".