لبنان... مسلسلات "غياب الدولة" وانتقام الشارع من منظومة الفسادhttps://www.majalla.com/node/312401/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%B3%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF
"نحنا مجموعة تجارب/ لازم نقرا كل العالم لحتى نجاوب. لازم نتحاسب ونحاسب"، يتردد صدى الكلمات المؤثرة في شارة المسلسل التلفزيوني اللبناني "الهيبة". ولكن كيف لتجارب كهذه، في الواقع، أن تحدد تفسيرنا للمسؤولية؟
مع تردد صدى الأذان في أزقة شارع الحمراء في بيروت مساء، انضممت إلى صديقتي اللبنانية وعائلتها لتناول إفطار رمضان قبل بضع سنوات، حيث كان التمر والحليب بداية تجربة رمضانية مشتركة. بعد الإفطار جلسنا على الأريكة لمشاهدة المسلسلات الرمضانية. وعلى الرغم من شكوكي الأولية، سرعان ما اندمجت في عالم "الهيبة" المعقد، وهي قرية خيالية تقع في منطقة تشبه وادي البقاع الشهير في لبنان. في هذا المسلسل، تبدو الدولة اللبنانية الرسمية بعيدة، ويقع دور إنفاذ العدالة على الوجهاء وشيوخ القبائل والمهربين، وهي شخصيات لا تصور بوصفها أمراء حرب يخدمون مصالحهم الذاتية، بل هي أقرب إلى "روبن هود" العصر الحديث.
ينبسط السرد الخيالي على خلفية يتصادم فيها التسلسل الهرمي التقليدي مع المُثُل المعاصرة، مما يؤدي إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ والعدالة والقصاص. على الرغم من رفض الكثيرين للمسلسلات الدرامية التلفزيونية بوصفها ترفيها سطحيا، فإن هذا المقال يتفحص على نحو نقدي إمكاناتها في تشكيل الصورة الشعبية عن العدالة الاجتماعية وفي جعل الممارسات غير القانونية أمرا عاديا. بينما أتعمق في حبكات المسلسلات هذه، أناقش قيمة مسلسلات كهذه في عكس الأعراف المجتمعية وتحدي التصورات التقليدية والمساهمة أخيرا في الخطاب العام الأوسع حول العدالة والأخلاق.
تعكس هذه المسلسلات الدرامية وعيا متزايدا بأخطاء النظام المتأصلة، التي تولد السلوك الإجرامي والفاسد وتمكنه
وبما أنني أنحدر من البلقان، فإنني على دراية بالحكايات الشعبية وبإضفاء الطابع الرومانسي على العدالة الفردية المأخوذة بالذراع. أصداء مثل هذه الروايات تتردد في الفصول الدراسية حيث يكشف خيال بلغاريا التاريخي عن ماضيها المظلم في ظل الإمبراطورية العثمانية. وتحتل حكايات البطولة هذه مركز الصدارة وتتحدث عن قادة خارجين على القانون، أو "الفويفودا"، قادوا تشكيلات من الميليشيات المسلحة المقاومة، "تشيتي". كانت هذه المجموعات تتألف من متمردين ناهضوا الدولة بإرادتهم، وطبعوا قصصهم عن التحدي ضد القمع في سجلات التاريخ. ويتخطى التصوير الرومانسي لهذه الشخصيات الفصول الدراسية ويترك بصمة لا تمحى على النسيج الثقافي، ويظل صداها يتردد عبر الأغاني والأساطير والروايات التاريخية والمسرحيات، بل تجد مكانا لها في المسلسلات التلفزيونية.
في نسيج تجاربي المفعمة بالعاطفة، أتذكر بوضوح مدى افتتاني في العاشرة من عمري، بالسرديات التي تصور بطل الرواية بوصفه تجسيدا للشجاعة والمبادئ. تخوض هذه الشخصية المركزية في المياه العكرة أخلاقيا للأعمال غير المشروعة من الناحية الفنية، بدءا من انتهاك القانون إلى تحدي احتكار الدولة للقوة. وقد تجنب السرد ببراعة شرعية هذه الأفعال، مما أدى إلى إبراز دوافع الشخصية النبيلة، هذا إن لم تكن مشروعة تماما. وقد تحول التركيز ببراعة من شرعية أفعال الشخصية إلى إبراز النيات المرتبطة بها، فأدى ذلك إلى ظهور تفاعل معقد بين العدالة والمساءلة والحدود غير الواضحة التي تفصل بين المعايير المجتمعية والقناعات الفردية.
"الهيبة": التشكيك في نظام العدالة
حين نتعمّق أكثر في تعقيدات حبكة "الهيبة"، تتكشف لنا سردية تشكك ببراعة في أخلاقية نظام العدالة الرسمي وشرعيته وقابليته للتطبيق. هذا المسلسل الذي أخرجه سامر البرقاوي، تدور أحداثه حول شخصية جبل شيخ الجبل والصراعات الصاخبة التي تعيشها عائلته داخل مجتمع الهيبة المحلي وفي الدولة اللبنانية المنقسمة على نفسها داخليا. هذه العائلة العربية الخيالية، التي تسيطر على طرق التهريب بين لبنان وسوريا، يتخاطفها صراع مرير ومستمر مع عشيرة سعيد المنافسة. في خضم هذا النزاع الداخلي والنزاعات الخارجية التي لا ترحم، يثير السرد تساؤلات عميقة حول القدرة على البقاء في هذه القرية التي ينعدم فيها القانون وتبدو فيها الثارات الشخصية لا نهاية لها وجراح ماضي لبنان تأبى الشفاء.
تتطور القصة عبر خمسة مواسم، فتدخل شخصيات وأعداء جدد في شبكة معقدة من التحالفات والعداوات. يؤكد جبل، الشخصية المركزية، باستمرار دوافعه النبيلة، مشددا على أن سبل العيش تعتمد على نظام التهريب بينما يرفض بشدة أن يرى في الاتجار بالمخدرات والأسلحة الثقيلة أعمالا أخلاقية مقاومة. في الموسمين الرابع والخامس، يتخذ جبل موقفا جريئا ضد النفوذ المستشري لأمراء الحرب الأقوياء المتحالفين مع السياسيين الفاسدين. تسعى هذه الشخصيات الشائنة إلى إنشاء مصنع غير قانوني في الهيبة لإنتاج حبوب الكبتاغون المخدرة. ويصبح جبل قوة حازمة في مواجهة هذا التحالف الآثم، ويمضي في تضاريس خطرة غادرة لتفكيك عملياتهم وإحباط مخططاتهم الشريرة.
بينما تتكشف أحداث السرد في الموسم الخامس، يوسع جبل حملته العنيفة ويحبط بشكل فعال عمليات تهريب الآثار التي تنظمها عصابات "داعش". ويجد جبل نفسه، في منعطف غير متوقع، عالقا في معركة شرسة ضد هذه الفصائل الإرهابية، فيضع بذلك حدا لأولئك الذين يستغلون نقاط ضعف الهيبة ويسعون إلى الاستفادة من إنتاج المخدرات وتهريب الآثار.
حين نتعمّق أكثر في تعقيدات حبكة "الهيبة"، تتكشف لنا سردية تشكك ببراعة في أخلاقية نظام العدالة الرسمي وشرعيته وقابليته للتطبيق
بعيدا من العالم الخيالي، تتشابك هذه المواضيع على نحو معقد مع الأزمات السياسية والأمنية الواقعية في لبنان والمنطقة. فيعكس "الهيبة" رسوخ عمليات التهريب على طول الحدود اللبنانية السورية، ويتناول العلاقة الفاسدة بين السياسيين والإعلاميين، كما يكشف عن توسع تجارة الكبتاغون، ويتعامل مع انتشار إرهاب "داعش"، ملقيا الضوء على اتجار التنظيم بالآثار. لذلك يمكن أيضا عدّ المسلسل، إلى جانب صفاته الترفيهية، انعكاسا فنيا نقديا للتحديات السياسية المعاصرة، مما لا يحرّض المشاهدين على مساءلة سلوك الشخصيات فحسب، بل على مساءلة المشهد الاجتماعي والسياسي الأوسع الذي تعكسه.
2020: روبن هود حديث
في استكشاف آخر للمشهد الاجتماعي والإجرامي في لبنان، يقدم مسلسل آخر بعنوان "2020" (2021) النقيبة سما، المحققة الجذابة على نحو استثنائي، التي يغدو سعيها لتحقيق العدالة متشابكا مع الثأر الشخصي والواجب العائلي. تشرع سما بدافع من الحادث المأسوي الذي أودى بحياة شقيقها - وهو شرطي أيضا - في مهمة سرية للقبض على زعيم مخدرات سيء السمعة. تنحدر سما من عائلة ثرية من الطبقة المتوسطة العليا لها إرث في مجال إنفاذ القانون، وتتنكر وراء شخصية حياة، التي تجسد الصورة النمطية لامرأة مضطهدة من الطبقة العاملة الدنيا، تقع ضحية للعنف وتضطر إلى العمل كعاملة تنظيف لدعم شقيقها الذي دمره إدمان الكحول.
تتسلل حياة بمهارة إلى عائلة صافي الديب، الأخ غير الشقيق ليزن، المتهم بأنه هو من أطلق النار على جبران، شقيق سما، وقتله. صافي هو أيضا شقيق تاجر المخدرات الهارب، "الديب"، الذي يحتل حاليا مركز تحقيقات الشرطة. الأهم أن شقيق سما فقد حياته أثناء محاولته كشف أنشطة الديب غير المشروعة. وفي أثناء الخوض في الصراعات اليومية للمجتمع الفقير المتمركز حول متجر الخضر الخاص بصافي، تكتشف سما بشكل غير متوقع تعاطفها معه. فمن خلال ملاحظتها لدوره التطوعي كمحسن للمجتمع، تشهد سما أعماله الكريمة، ولا سيما نحو الأمهات العازبات والأرامل المثقلات بمسؤولية إعالة العديد من الأطفال بمواردهن المحدودة.
هذا التناقض الصارخ بين العمل الخيري لصافي والواقع القاسي لحياته المزدوجة، يولد صراعا داخليا لدى الجمهور. تتكشف شخصية صافي المعقدة عندما يتضح أنه يدير متجرا للخضروات كواجهة بينما يخفي تورطه النشط في عصابة لتهريب المخدرات. لإضافة طبقة أخرى إلى القصة، يقوم صافي بتوظيف نساء مستضعفات، أجبرتهن لقمة العيش على امتهان الدعارة، ومن المفارقات أنه يقدم لهن ما يشبه التمكين وفرصة لهوية جديدة وحرية من خلال توظيفهن في تجارة المخدرات غير المشروعة - حيث تعمل تلك النساء على حشو الخضروات بالكوكايين في قبو متجره.
يعيد السرد في "2020" توجيه التركيز واللوم بعيدا من المجرم الفردي، ويلقي الضوء على نظام يعزز السلوك الإجرامي
وعلى الرغم من الاكتشاف بأن صافي هو العقل المدبر لحلقة تهريب المخدرات، إلا أن سما تبقى متأثرة بدفاعه المقنع. حيث يصور صافي تصرفاته على أنها استجابة للظروف التي ولد فيها، مؤكدا عدم حماية الدولة لمجتمعه. يعترف باختياره طريق تاجر المخدرات، لكنه يؤكد أنه يعيد توزيع أرباحه على المنسيين والمهملين. تتكشف الذروة العاطفية في حين تكافح سما مع دورها المزدوج كضابطة شرطة وعاطفتها المتزايدة تجاه زعيم المخدرات الشبيه بروبن هود. لحل صراعها الداخلي، يأخذ صافي، في منعطف مأسوي، زمام الأمور بيديه، تاركا كلا من سما والجمهور مع شعور عميق بالتعاطف والتفهم للخيارات التي يبدو أن ظروف حياته قد فرضتها عليه. وعلى شاكلة مسلسل "الهيبة"، يعيد السرد توجيه التركيز واللوم بعيدا من المجرم الفردي مرة أخرى، ويسلط الضوء على نظام يعزز السلوك الإجرامي كوسيلة يائسة للنجاة اليومية كما يوضح هذا المسلسل.
وأخيرا: عالم المهمشين
كإشارة خفية للمشاهدين الذين تأثروا بالكيمياء الايجابية بين نادين نسيب نجيم وقصي خولي كعاشقين تقاطع درباهما في مسلسل "2020"، يتألق كلا الممثلين مرة أخرى على الشاشة في دراما أخرى ذات طابع توعوي اجتماعي، "وأخيرا" الذي يسلط الضوء على المعاناة اليومية للمجتمعات اللبنانية المهمشة، والتي تصوَّر مرة أخرى على أنها منسية وتتعرض للتحيز والظلم من قبل نظام العدالة الرسمي. في هذه القصة المثيرة، فإن ياقوت، الذي يلعب دوره الفنان قصي خولي، يجد نفسه في مسار تصادم لا إرادي مع الشرطة التي تحقق في اختطاف مجموعة من النساء، بمن فيهن خطيبته خيال، التي تلعب دورها الفنانة نادين نسيب نجيم. في الوقت الذي يكشف فيه ياقوت عن شبكة من الفساد داخل منظومة الشرطة، التي يسيطر عليها زعيم عصابة قوي وماكر، فإنه يأخذ الأمور على عاتقه لكشف المحقق المخترق وإنقاذ النساء المختطفات.
في حين يواجه ياقوت العديد من المعضلات الأخلاقية في محاولته تحديد مكان النساء المختطفات، تفضح المؤامرة المتكشفة مصيرهن المؤلم حيث اضطررن إلى العمل في الخفاء، وكنّ يعملن في مجال الدعارة ويساعدن في تهريب المخدرات من طريق تعبئتها بدقة وتهيئتها للتوزيع. في هذا العالم، تظهر خيال، التي تتميز بماضيها الغامض المتشابك مع تاجر مخدرات، بذكائها الهائل وقوتها ومرونتها. وبدهاء تكتسب ثقة أحد رجال العصابات الذي كان قد أُجبر على الدخول في عالم تهريب المخدرات بسبب اليأس والإكراه من قبل زعيم العصابة، كما اتضح لاحقا. وفي تحالف غير تقليدي مع هذا الشريك، لا تساعد خيال في تنفيذ عمليات تهريب المخدرات فحسب، بل تتسلق السلم الهرمي أيضا وتكسب الثقة وتشق طريقها نحو قمة المنظمة الإجرامية.
في مسار مواز، يتخذ ياقوت إجراء جذريا مدفوعا بالحاجة إلى حماية عائلته من طغيان زعيم محلي ويدخل بالقوة أحد البنوك حاملا سلاحا مرتجلا. ومن خلال تقديم مونولوغ مقنع يؤثر في كل من الرهائن والمشاهدين، يكشف ياقوت عن العيوب المنهجية التي أجبرته على اللجوء إلى مثل هذه الإجراءات المتطرفة، مرددا محنة المجتمع اللبناني الذي يصوره العمل بشكل جماعي والذي تخلى عنه هذا النظام المعيب. في ظل الخلفية المضطربة للصعوبات المالية التي يعاني منها لبنان، يتحول السرد إلى نقد مؤثر للمحسوبية وسياسات المحسوبية والفساد المتفشي.
على الرغم من استعدادهما لتجاوز الحدود الأخلاقية، أو ربما بفضل ذلك، تؤتي جهود ياقوت وخيال ثمارها بشكل مؤقت، مما يؤدي إلى إطلاق سراح النساء واعتقال زعيم المافيا الكبير، ويبلغ نجاح مساعيهما ذروته في حفل زفاف الزوجين الذي طال انتظاره. مع ذلك، يشير الصوت المشؤوم لسيارات تقترب وطلقات نارية بعيدة إلى مستقبل غامض، مما يترك المشاهدين مع افتراض أن سعادة الزوجين قد تكون مجرد لحظات عابرة وأن الطبيعة الدورية للفساد والجريمة والاستيلاء على الدولة لا تزال قائمة، بظهور شخصيات جديدة لتصفية الحسابات وإبقاء الحلقة المفرغة.
في موضوع متكرر يذكرنا بمسلسلات درامية مثل "الهيبة" و"2020"، يختم المسلسل أحداثه بنبرة تشاؤمية، مما يلقي بظلال من خيبة الأمل في شأن التأثير المحتمل للمساعي الفردية والشخصيات الاستثنائية في التحريض على التغيير الاجتماعي الدائم. إذ يلقي هذا السرد الضوء على التحدي الهائل المتمثل في تفكيك نظام راسخ في معادلة غير مقدسة: طالما استمر أصحاب النفوذ في جني الأرباح، سوف تنشأ مقاومة هائلة من الساسة، والمسؤولين، والقائمين على تطبيق القانون، وزعماء العصابات، وأولئك الذين أجبروا على التبعية. إن هذه الشبكة المعقدة من ديناميكيات القوة، حيث يخدم الوضع الراهن مصالح الأقوياء، تغذّي المقاومة ضد أي قوة مدمرة تهدد النظام القائم. تمثل هذه السلسلة انعكاسا واقعيا للعقبات الهائلة التي يواجهها أولئك الذين يسعون إلى التغيير الثوري في نظام مصمم للصمود حتى في وجه أكثر الجهود استثنائية.
للموت: أطفال الشوارع
بدأ عرض المسلسل التلفزيوني اللبناني "للموت" في عام 2021، وهو ينسج بشكل معقد الخيوط السردية لثلاثة أفراد من ذوي الخبرة في حياة الشوارع - سحر ووجدان وعمر - الذين تشكلت سنوات تكوينهم في شوارع بيروت التي لا ترحم. بعد التعرف إلى الحقائق القاسية للفقر والتشرد، يقوم أطفال الشوارع هؤلاء بصياغة خطة جريئة لاستعادة نصيبهم من الرخاء من خلال استخدام المكر والاحتيال لتجريد الأثرياء من ثرواتهم.
مع تطور أحداث "للموت"، يتعزّز لدى المشاهدين شعور أعمق بالتعاطف تجاه شخصياته وإن كانت تنتمي إلى عالم الجريمة
تتناوب كل من سحر ووجدان على لعب الأدوار، وتستخدمان استراتيجيا ماكرة، إذ تعملان على الإيقاع برجال أثرياء في شرك الزواج، حيث تتظاهر إحداهما بأنها العروس بينما تنطلق الأخرى لإغواء الزوج المتزوج حديثا. عند استسلامه الحتمي للإغراء، تبدأ الزوجة الافتراضية في اتخاذ إجراءات قانونية، وتقاضيه سعيا وراء ثروته، ثم يقوم الثلاثي المحتال بتقاسم الأرباح بينهم. مع ذلك، يواجه تصرفات الثلاثي تحول دراماتيكي عندما تقع وجدان في حب رجل الأعمال هادي الذي يبدو مستقيما وتطمح إلى الابتعاد عن حياة الجريمة.
تتطلع وجدان إلى بداية جديدة خالية من الاحتيال والجريمة. لكن عندما يفتضح خداعها، تجد نفسها مضطرة من جديد للاعتماد على دهاء الشوارع الذي تمتلكه صديقتها سحر لإيجاد طريقة للخروج من المعضلة. لكسب الوقت، تختطف سحر والدة هادي المفعمة بالشك أصلا وتقدم مونولوغا مقنعا، عندما تتهمها الأم بأنها اختارت الطريق الأسهل في الحياة. في مواجهة مثل هذه الإدانة المطلقة، تفصح لها سحر عن المعاناة التي عاشتها منذ طفولتها المبكرة، ملقية الضوء على الصعوبات التي شكلت خيارات حياة الأبطال المشكوك في أمرها.
يقدم بوح سحر لمحة مؤثرة عن الأحكام القاسية التي يفرضها المجتمع على أولئك الذين يبحثون عن طريقة مبتكرة للتغلب على حظهم العاثر. ومن المثير للاهتمام، أن سحر وعلى الرغم من تراخيها الأخلاقي في علاقاتها الرومانسية مع الرجال، حظيت بإعجاب كبير حتى لدى النساء الأشدّ محافظة دينيا وثقافيا، تلك النساء اللاتي شاركنني افتتانهن بروح سحر القوية ومرونتها وإحساسها بالولاء لأولئك الذين تحبهم.
في الوقت نفسه، يسلط المسلسل الضوء على محنة مجتمع مهمش ومهمل من أنظمة الرعاية الاجتماعية الرسمية في الدولة، وهو المجتمع الذي تنتمي إليه سحر وريم. تروي القصة المواقف اليائسة التي يواجهها أفراد مثل محمود، المتخصص في تكنولوجيا المعلومات، ولكن العاطل عن العمل، الذي أُجبر على اتخاذ إجراءات جذرية لتأمين المعدات الطبية لوالده الذي يعاني من مرض خطير. ومع عدم توفر إمكان شراء جهاز الأوكسيجين اللازم، يلجأ محمود إلى سرقة سيارة لبيع أجزائها في السوق السرية، على أمل الحصول على أموال كافية لشراء المعدات الحيوية المنقذة للحياة.
تنتهي الخطة بمأساة عندما يُقبض على محمود ويُسجن بسبب ما يبدو أنه جريمة بسيطة، مما يجعل عائلته عاجزة عن دفع تكلفة الكهرباء. وهذا يؤدي إلى نتيجة مدمرة وهي وفاة والده بسبب نقص الأوكسيجين. بعد عزله، يُترك محمود للتعامل مع الحزن العميق لفقدان والده والشعور بالذنب بسبب اختياره اليائس.
بالتوازي، يقدم المسلسل قصة أرملة وأم لثلاثة أطفال، تتجه إلى العمل الخطير المتمثل في بيع الوقود بشكل غير قانوني لإعالة أطفالها. إنها تخفي براميل الوقود بذكاء لتتجنب اكتشافها على أيدي سلطات إنفاذ القانون. وهي تواجه ديونا هائلة من زوجها السابق الذي يسيء معاملتها، وتجد نفسها بلا خيار سوى كسب أموال إضافية من خلال الرقص في ملهى ليلي مشكوك فيه.
يستكشف "للموت" الحقائق القاسية التي يواجهها أطفال الشوارع الأيتام الذين يقعون فريسة العصابات الإجرامية التي تستغلهم في أنشطة غير قانونية. ومع تطور أحداث المسلسل، يتعزّز لدى المشاهدين شعور أعمق بالتعاطف تجاه شخصيات مثل سحر ووجدان، اللتين، على الرغم من انخراطهما في أنشطة إجرامية، تقدمان نموذجين لتحدى الظلم المجتمعي، وتسلطان الضوء على النضال من أجل الهروب من الماضي الذي يعيق باستمرار جهودهما لعيش حياة كريمة ضمن قيود النظام المجتمعي الراسخ. في السياق اللبناني، حيث أصبحت التنازلات الأخلاقية جزءا روتينيا من الحياة، من المفهوم أن يجد الجمهور جزءا من نفسه في الأبطال المضطربين ولكن الذين يمكن التواصل معهم، والذين وقعوا في شرك دائرة من الندم والعار والخيارات المستحيلة.
في معارك الشخصيات الدائمة من أجل الكرامة والبقاء، ثمة انعكاس لنضالات الأفراد في الحياة الواقعية. إن تصوير هذه الشخصيات المنخرطة في أنشطة إجرامية لا يعني بحال من الأحوال أن غالبية المشاهدين سيحذون حذوهم في الخروج على القانون، بل المرجح إن التأطير المتعمد للسلوك غير المشروع، والنص الواعي للتعاطف مع الأبطال الإجراميين، وتسليط الضوء على المشاكل النظامية والبيئات المحيطة بها، تريد أن تعكس بدقة خيبة الأمل المتزايدة إزاء المرض المزمن الذي يعاني منه النظام برمته.
منذ اندلاع حركة الثورة اللبنانية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ردد المتظاهرون شعار "كلّن يعني كلّن". لا يستهدف هذا الغضب الجماعي أولئك داخل النظام السياسي الرسمي فحسب، بل يستهدف أيضا أولئك الذين يساهمون في الحفاظ عليه، سواء أكانوا متورطين في أنشطة سرية مثل الاتجار بالمخدرات أو التهريب أو استغلال النفوذ في مختلف القطاعات. بالتالي، تعكس هذه المسلسلات الدرامية وعيا متزايدا بأخطاء النظام المتأصلة، التي تولد السلوك الإجرامي والفاسد، وتمكنه.
إن عدم القدرة على الانفصال عن هذا النظام الراسخ وتعطيل الدورة يكشف عن هندسة معقدة من البؤس، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى تغيير منهجي وجهد جماعي لتسليط المزيد من الضوء على الهياكل التي تديم اليأس وخيبة الأمل في لبنان.