مثل ظواهر حياتية كثيرة أخرى، يشكل العمران المعاصر المُشيد في بلدان منطقتنا- وسيشكل- دلالة واضحة على نوع وهوية وعقيدة السلطة التي حكمتها طوال العقود الأخيرة. فقد طال العمر بهؤلاء "المنتصرين" في بلداننا، بعضهم يحكم منذ أكثر من نصف قرن، كما هي حال النظام السوري، وآخرون تتراوح أعمارهم السلطوية بين عقدين وثلاثة، مثل "حزب الله" في لبنان والقوى المركزية الحاكمة في العراق. وكثيرون ستتجاوز أعمارهم العقد، مثل جماعة "أنصار الله" في اليمن والميليشيات الحاكمة للجغرافيا الليبية ونظيرتها السودانية.
حسب هذا المسار الزمني المديد، فإن حكم هؤلاء وسلطتهم لم يعودا مجرد قوة محضة أو عنف عارٍ ومفروض، بل سلطة ومنظومة حكم بالمعنى الأوسع للتعبير، بما تعنيه من أداة شرعية لإدارة الحياة العامة ومؤسسات الدولة وشرعية تنظيم القضاء وتطبيق العدالة واحتكار العنف، وتقديم وتنفيذ ما هو نافع للصالح العام على ما هو سواه. هذا غير امتلاك الأدوات والسُبل لخلق فرص حياة أكثر رحابة وكفاية وديمومة للجميع، حيث من المفترض أن تكون هذه سمات أي سلطة مُستدامة، أيا كان صاحبها ومصدرها.
راهنا، وفي مستقبل الأيام، سواء بقيت هذه القوى "المنتصرة" في الحكم لفترة طويلة مستقبلا أم لا، ستكون مخلفاتها العمرانية شاهدا بصريا واضح المعالم على أدائها وسلوكها ومدى تطابقها مع تلك المعايير المفترضة. فالعمران، تحديدا في تعبيراته الأكثر تلميحا ودلالة على حضور السلطة في المجتمع والحياة العامة، مثل شكل وهندسة الساحات العامة التي شيدتها خلال فترة حكمها، الطراز العام للمدن التي نهضت أثناء زمانها، تصميم وتفاصيل أبنية المؤسسات الحكومية والعامة، الشوارع والحدائق والجسور التي بنتها وأعادت تصميها، مجموع ما تفرضه من قوانين ومعايير ضابطة للعمران في كنف سلطتها، العمران في كل ذلك هو الشاهد والمعبر الدائم والحقيقي عن نواة وعي أي سلطة حاكمة، وعيها بنفسها وبالمجتمع والجغرافيا التي تحكمها، بالسلطة والسياسة والاقتصاد وبكل تفاصيل الحياة.
مثل دمشق كانت باقي المدن السورية والساحات والأبنية الحكومية، مبنية على عجل ودون تصاميم هندسية ذات رؤية
الغرائبي في حالتنا الراهنة، أن تلك الفرصة لن تكون متوفرة للمتابعين والباحثين والمؤرخين. فمجموع ما أفرزته القوى "المنتصرة" طوال هذه السنوات من عمران هو بالضبط الـ"لا شيء". إذ أن الـ"لا شيء" هذا يُشير إلى مجموعة واضحة من الدلالات على نوعية هذه السلطة، سلوكها وآليات عملها، وما تستبطنه من أيديولوجيا ومخيلة ورؤية سياسية وحياتية.
ليس في الأمر أي كيدية، فالوقائع العيانية تدل على هذه الحقيقة بجلاء. فلم يسبق مثلا أن شُيدت ساحة عامة في أي من المُدن الرئيسة السورية طوال أكثر من نصف قرن، حتى الأحياء الجديدة التي بُنيت على جنباتها، كانت لغير صدفة خالية من مثل هذه الساحات. حتى الأحياء السكنية الأكثر أهمية وضما للطبقات الغنية والقريبة من مركز السلطة، مثل "مشروع دُمر"، و"ضاحية قدسيا" في العاصمة السورية دمشق، التي يسكنها مئات الآلاف من المواطنين، خالية تماما من أي ساحة عامة.
مثل دمشق كانت باقي المدن السورية على الدوام، ومثل الساحات كانت الأبنية الحكومية، مبنية على عجل ودون تصاميم هندسية ذات رؤية، ضيقة وخالية من منافذ الإضاءة ودون شُرفات وحدائق، مليئة بالحديد والستائر، غير متمايزة عن بعضها وبألوان قاتمة، لا يمكن تمييزها عن باقي الأبنية ذات الملكية الخاصة، وقبل كل شيء غير مؤثرة على الضمير العام وحسه الجمالي، إن لم تكن مؤذية ومُعنفة رمزيا لذلك الحس الجمعي.
الحدائق والشوارع والجسور ومداخل المدن والمطارات وقوانين العمران، كلها كانت أشياء شبيهة بتلك الأبنية الحكومية، أشياء مبنية على عجل، بفقر بصري وقيم محافظة، وإحساس عميق بعدم أهمية ما يتجاوز المباشر والملموس، دون حس جمالي أو اهتمام بقيمة العمران العام، وتاليا المجتمع "المحكوم" والفضاء المشترك الذي يجمعهم. وذلك يدل إلى انعدام حس الحاكمين هؤلاء بالديمومة في الضمير العام، عبر ترك أثر عمراني في ذاكرة المجتمعات، مثلما كان سادة الحُكم يفعلون منذ العصر السومري.
نوعية "العمران/اللا شيء" الحالية هي التعبير الأكثر رصانة في تاريخنا المعاصر عن قلة ارتباط مجتمعاتنا ببلدانها
لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد البصري والعقلي لتأكيد هذا الطابع على مختلف المناطق والجغرافيات المحكومة من هؤلاء "المنتصرين". فهل من شيء أكثر دلالة على الفروقات الجوهرية بين "حزب الله" والمارونية السياسية التي كانت حاكمة، مثل الفروق الواضحة بين أي حي سكني في بيروت في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم، وبين العمران في العاصمة اللبنانية اليوم؟ وهل من مؤشر على الحاكمين الجدد للعراق أكثر من شكل العاصمة بغداد من الطائرة راهنا، والتي تبدو كمدينة منكوبة اجتاحها الإعصار، ومثلها باقي مناطق العراق، بالمقارنة مع ما كان عليه عمران المدن العراقية في العهد الملكي مثلا.
حسب ذلك، فإن نوعية "العمران/اللا شيء" الحالية هي التعبير الأكثر رصانة في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، عن قلة ارتباط مجتمعاتنا ببلدانها، تضاف إليها غربة شديدة للحاكمين عن هذه المجتمعات ومتطلباتها الحياتية، الراهنة والمستقبلية، وافتقادها لأي رؤية لما يجب أن يكون عليه مستقبلها. وكل ذلك معطوف على سوء جدارة الطبقات الحاكمة وآلية صعودها، التي ما اعتمدت على شيء خلا العنف المحض، ومع تلك الأمور كلها، شعورها في صميم وجدانها بعدم ديمومتها، وما ستلاقيه من مصير بائس، في مستقبل تراه قريبا أكثر من كل متوعديها.