بالنسبة إلى عدد غير قليل من العلماء التجريبيين، أصبحت الفلسفة مجرد نصوص أدبية ولم تعد لها حاجة حقيقية، مجرد ضجيج نحل حول قضايا لا يمكن جمع الناس فيها على رأي واحد، لأنها تتعلق بمعارف مستحيلة. هذا التصور نشأ عن نظرتهم إلى المرجوّ من الفلسفة. لقد قدم العلم كل هذه الاختراعات والاكتشافات وعالج الطب المرضى ورتبت العلوم الإنسانية حياة الناس وخدمتهم في حياتهم الحسية، فماذا قدمت الفلسفة؟
ما قدمه العلم هو شهادة استحقاق، تؤهل العلوم الطبيعية لأن تدرس ولأن تستمر دراستها أبداً لأنها مفيدة لكل البشر. ولا يمكن أن ندعي أن الفلسفة قد تقدمت بمثل هذه المنفعة. لكن الفلسفة، مع ذلك ضرورية، بسبب التأثير العميق الذي أحدثته في حياة كل من عشقها، وهذا التأثير يختلف عن قضاء الحاجات البراغماتية المتفق على جدواها، فالفلسفة سمو عن الاحتياج المادي، فهي غذاء للعقل لا للمعدة والحواس. الفلسفة إصلاح للعقل ودعوة إلى الفضيلة الأخلاقية.
مثل كل العلوم هي سعي وراء المعرفة، لكنها تختلف عن العلم في كونه جزئياً، بينما هي كلية تسعى إلى وضع جميع العلوم في نظام واحد، كالمسبحة. وهي بالضرورة تستخدم الشك مبدأ لتشغيل البحث النقدي والنظر في الأسس. في كل مسيرتها لم تستطع أن تكون معرفة تراكمية، كلما أتى فيلسوف هدم بيوت السابقين وبنى بيته هو. كل الفلاسفة نرجسيون، لا يرتاحون حتى يشعر الواحد منهم بأنه الفحل الذي انتصر على كل الفحول.
عظمة الفلسفة تكمن في هذه المساحة من عدم اليقين، ومن هنا تنطلق لتسائل قناعاتنا وتحكها حكاً شديداً يظهر الحقيقة من الزيف
كل العلوم تركت جسداً إيجابياً محدداً يمكن النقاش حوله، أما الفلسفة فهي ما يبقى لك بعد أن تنسى كل نصوص الفلاسفة، شيء يشبه الخبرة. لكن علينا أن نتذكر أن كل العلوم التجريبية والإنسانية كانت علوماً فلسفية، ثم أعلنت الانشقاق عن الفلسفة بعد أن اكتملت. كل العلوم – باستثناء الدينية – خرجت من رحم الفلسفة، من الرياضيات والفيزياء إلى علم الاجتماع وعلم النفس.
ما تجيب عنه الفلسفة يصبح نظرية علمية وما لا تجيب عنه يبقى اسمه نظرية فلسفية، وهكذا أصبحت ترمز إلى المشكوك فيه، أو إلى القضايا المعلقة، مع أن عدداً من الفلاسفة لا يصادقون على هذا التقرير ويرون أن الفلسفة قادرة على التأسيس للحقائق واليقين. والحق أن عظمة الفلسفة تكمن في هذه المساحة من عدم اليقين، ومن هنا تنطلق لتسائل قناعاتنا وتحكها حكاً شديداً يظهر الحقيقة من الزيف. الشك عنصر جوهري في الفلسفة، لأنك لن تخرج من حالة الكسل المعرفي من دون أن تبقي جسدك عارياً وتسائل معارفك، وقبلها يجب أن تسائل أدواتك المعرفية، عقلك وأي منطق يستخدم، وحواسك وما مدى دقة المعلومات التي تصلك منها.
وهناك من يتقدم بأدوات أخرى، لكن العقل والحواس هما الأداتان المتفق عليهما بين كل البشر، على أنهما أدوات. هناك من يضيف الحدس، والمعاجم الفلسفية تذكر أربعة من أنواع الحدس المختلفة، إلا أن الفلاسفة لا يقرّون بجدوى كل الحدوس وإنما يقبلون منها الحدوس العقلية والحسية فقط، وهذان النوعان يعودان إلى العقل والحواس من جديد.
والفلسفة لا تتوقف عند حد إثارة الأسئلة كما يقرر الوضعيون الذين جعلوها مجرد خادمة للعلم، بل تتقدم بالأجوبة والآراء المحتملة التي تحرر ذهن الإنسان من الأطروحات الجاهزة الدوغمائية، وتبقي روح السؤال حية للأبد.