انضمت الحرب في غزة، في مستهل شهرها السادس، إلى قائمة الحروب شبه المنسية في المنطقة. سوريا واليمن والسودان وليبيا ولبنان، في منطقتنا، وأوكرانيا من خارجها، صراعات لا ضوء في الأفق يعلن اقتراب حلها. كذلك غزة.
الحديث عن تقدم واختراق وتفاوض حول الرهائن والهدنة ووقف طويل لإطلاق النار، سرعان ما يتبخر لتحل مكانه الأنباء عن إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على تحقيق "نصر حاسم"، وتمسك "حماس" بما يصفه الإسرائيليون بالشروط "الوهمية". وبين الموقفين اللذين يجدان من يدعمهما ويبررهما، لا بأس من بعض الاستعراضات كإلقاء مساعدات لجياع غزة من الجو تشارك فيها القوة العظمى التي تستطيع فرض الحل على حليفتها إسرائيل خلال ساعات إذا لوحت بوقف تزويدها بالذخائر والتغطية الدبلوماسية.
ليست الحروب المزمنة بالاكتشاف الجديد وليست من مستجدات العصر الحديث. بل هي ظاهرة رافقت الكثير من حالات التوازن الدولي بين قوى متشابهة والعاجزة عن حسم الموقف في الميدان والوصول إلى نصر ناجز.
الحروب الصليبية التي استمرت قرنين، وحروب صارت تُعرف بسنواتها كحرب المئة عام بين فرنسا وإنكلترا وحرب الأعوام الثلاثين التي استعرت في أوروبا وأدى الانتقال من الكاثوليكية إلى البروتستانتية دورا محوريا فيها، نماذج لحروب مديدة وصلت إلى نهاياتها بطرق مختلفة بعد تغير موازين القوى أو بعد قناعة وصل المتحاربون إليها باستحالة الفوز في ساحة القتال.
يعيق الانقسام الدولي العميق بين أقطاب عدة كل محاولة لفرض حل متوافق عليه بين القوى الكبرى
في القرن الحادي والعشرين، تبدو الحروب وكأنها عادت إلى احتلال موقع الصدارة في العلاقات الدولية. التحولات الكبرى في العالم منذ تسعينات القرن الماضي، لم تحمل الاستقرار والازدهار اللذين وعد بهما المبشرون بـ"نهاية التاريخ". بل إن البشرية اندفعت نحو طريق الشقاء والحروب والسهر على قرع طبول التهديد النووي الذي أصبح مادة شبه يومية في وسائل الإعلام.
كل حالة من الحالات المذكورة أعلاه من حروب الحاضر، قابلة للتفسير تفسيرا مستقلا يضعها في سياقها الخاص والمنفصل: الطموح الإقليمي الروسي والشعور بالتهديد من حلف "الناتو" في حالة الحرب الأوكرانية. انهيار شرعية النظام الحاكم في سوريا وبروز فشله في تقديم حل سياسي يرضي أطرافا تحظى بقاعدة شعبية واسعة كالأكراد وأهالي الشمال... إلخ. في المقابل، تتشارك الحروب هذه في استمرارها خارج أية مظلة دولية مشتركة.
ويعيق الانقسام الدولي العميق بين أقطاب عدة كل محاولة لفرض حل متوافق عليه بين القوى الكبرى، على غرار ما جرى في لبنان نهاية الحرب الأهلية في 1990. أو طرد القوات العراقية من الكويت في العام الذي يليه. في الحالتين هاتين، التقت مصالح الفاعلين الرئيسين في المنطقة على طريقة للخروج من الاقتتال في لبنان ومن الاحتلال العراقي للكويت.
لكن الانقسام ليس التشخيص الدقيق للوضع الحالي. بل إن غياب القيادة الدولية الفردية على النحو الذي ساد في التسعينات عندما تولت الولايات المتحدة مهمات "إدارة النزاعات" في العالم من يوغوسلافيا السابقة حتى الصومال، أو القيادة الجماعية في أيام الحرب الباردة التي كان المعسكران الاشتراكي والغربي يتقاسمان ساحات الصراع ويتفقان على سقوف التوتر المقبولة في كل منطقة ضمن الفلسفة التي توصل إليها الحلفاء في مؤتمر بوتسدام في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
هذان النوعان من التنافس والتعاون غائبان اليوم. يتيح هذا الغياب المجال أمام بقاء الكثير من الصراعات والقضايا من دون حلول في نوع من التوتر المنخفض الذي لا يستطيع أو لا يريد كبار الفاعلين تغييره لاعتباراتهم الخاصة والتي تتعلق أكثر بالافتقار إلى القوة والموارد والخشية من ردود الفعل العنيفة والمكلفة التي قد تصدر عن الأطراف المحلية.
في الشهر السادس للحرب على غزة، لا تحتمل الأحزاب الإسرائيلية فكرة وضع حد للحرب، لا بدفع قوات كبيرة إلى القطاع لاجتياحه والقضاء على "حماس" ولا بالتوصل إلى اتفاق سياسي مع الحركة. ولا يستطيع "حزب الله" شن حرب واسعة على إسرائيل من الشمال ولا التوقف عن عملياته التي كلفته حتى الآن أكثر من مئتي قتيل. ولا ترغب إيران في المزيد من التوتر مع الأميركيين في العراق وسوريا ولا يقدر الأميركيون على اجتثاث الحوثيين الذين لا يزالون يعيقون حركة التجارة في باب المندب.
سلسلة طويلة من الحسابات التي ترغم الجميع على البقاء في حالة الحرب المديدة في انتظار مفاجأة ما... يوما ما.