هناك موقفان من العلاقة التي تربط عمليتي الترجمة بالتفلسف:
الموقف الأول ينظر إلى ترجمة النصوص الفلسفية على أنها مجرد عملية تمهيدية، وأنها نوع من تهييئ النصوص الكبرى كي تغدو متيسرة للقارئ الذي ينوي الاشتغال بالفلسفة، والذي يعتزم إعمال الفكر في نصوصها. هنا تطرح مسألة الترجمة بمعزل عن المخاض الفكري، وتُدرك بوصفها، مثل التحقيق، سعيا لإعداد النص لمن يعتزم إعمال الفكر فيه، ومحاولة لتوفير أمهات النصوص ووضعها بين يدي القارئ. حينئذ ستكون الترجمة لحظة سابقة ممهدة لكل تفلسف. ما تهدف إليه لا يعدو توفير النص، حتى وإن تطلب الأمر أن يقبع في قاعة انتظار إلى أن يحين وقت استخدامه، والاشتغال به وعليه، والتفكير معه أو ضده.
الموقف الثاني يرى، على العكس من ذلك، أن نصف عملية التفلسف والتنقيب عن المعنى ومحاولة حصره أو ملاحقته على الأقل، يكمن في فعل الترجمة ذاته. فالترجمة هي أساسا إعمال فكر. وإذا كانت الفلسفة حوارا، فهي بالأوْلى حوار بين نصوص، وبين لغات. هذا، فضلا عن أن النص لا يفتأ يُترجم وتعاد ترجمته. لذا لا يمكن فصل الترجمة عن التفلسف.
قبل أن نفحص الموقفين، لنبدأ بهذا السؤال: هل يمكن تصور كتاب في الفلسفة، مهما كانت لغته، لا يتضمن كلمات أجنبية؟ ربما لا يتطلب الجواب كبير عناء. إذ يكفي تصفح أي كتاب في هذا المضمار تأكيدا للجواب. وفي طبيعة الحال، لا ينبغي الاعتقاد بأن هذا يخص نصوصنا المكتوبة بلغة الضاد، فنحن نلمس ذلك في معظم النصوص الفلسفية، قديمها وحديثها. فلماذا لا تكف الكتابة الفلسفية عن التعلق بلغة الأصول عندما تنقلها؟
نعتقد أن هذا يعود إلى طبيعة ذلك النسيج العنكبوتي الذي هو النص الفلسفي. كل نص ينطوي على كثافة سيميولوجية تجعل، حتى صاحبَه، عاجزا أن يحصرها من غير انفلات "بقايا لا يقدر عليها"، كما كتب التوحيدي. فلا سبيل إلى إحاطة تامة بمعانيه. فحتى المؤلف نفسه لا يتمكن من بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. لذا فكل ترجمة، حتى إن تمت على يد المؤلف نفسه، لا بد أن تجعل المعنى ينفلت ويمتد في اختلافه عن ذاته، لا يحضر إلا مبتعدا عنها مباينا لها En differanceعلى حد تعبير دريدا.
إذا كانت الفلسفة حوارا فهي بالأولى حوار بين نصوص وبين لغات
كتب إمبرتو إيكو في كتابه في الترجمة، الذي يحمل عنوانا لا يخلو من دلالة في هذا السياق: "أن تقولالشيء نفسه على وجه التقريب"، كتب متحدثا عن علاقته كمؤلف بما تُرجم له من نصوص: "كنت أشعر أن النص يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني أنا صاحبه، كما كنت أشعر أن في إمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان".
لعل أهم ما في هذا الاعتراف لإيكو هو حديثه عن "الطاقات التأويلية" التي ينطوي عليها النص، والتي تظل غائبة عن صاحبه، مغمورة في لغته، والتي لا تنكشف إلا في حضن لغة أخرى، ولا تظهر إلا إذا لبست حلة جديدة،وكُتبت من جديد. ربما كان هذا هو المعنى ذاته الذي يعنيه جاك دريدا حينما يقول إن النص، عندما يُنقل إلى لغات أخرى، فإنه يحيا "فوق مستوى مؤلفه"، فوق مستواه، يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته autorité من حيث هو مؤلف وauteur، فوق مستواه، يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلف سرعان ما يتبين عند كل ترجمة، أنه عاجز عن بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. وهو يتأكد من ذلككلما حاول هو نفسه نقل أحد نصوصه إلى لغة أخرى، إذ سرعان ما يصطدم بالصعوبات التي يطرحها نصه، فيتبين اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدد تأويلاته. والغريب أنه يُحس أنه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك ذلك الاشتراك واللبس، لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأن عملية الترجمة هي التي تسلط الأضواء على النص الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنها تُبِين في بعض الأحيان عن نواقص الأصل. فكأن كشف خصائص الأصل لم يكن له أن يتم لولا الترجمة، وكأن اللغة، بفعل الترجمة، لا تكتفي بأن "تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها"، كما كتب جاحظنا، وإنما تسعى أيضا لأن "تفضحها". لا ينبغي أن نفهم الفضح هنا على أنه دائما فضح عورات وعيوب، بقدر ما هو كشف عن الدلالات وتعرية لها une mise à nu. الترجمة إذن تنقل وتفكر.
يظهر إذا أن الترجمة فعالة في النص الفلسفي، ومُولدة لمعانيه، وكاشفة لخباياه. فهي لا تكتفي بتوفيره وتهييئه للقارئ الذي سيُعمل فيه فكره، وإنما تشرع هي، ومنذ البداية، في تأويله، بل في توليده، وإبراز طاقاته ومكنوناته.والأهم من ذلك أنها غالبا ما لا ترضى عن عملها، فلا تفتأ تعيد فيه النظر.
على هذا النحو فإن ترجمة النصوص الفلسفية لا يمكن إلا أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها
على هذا الأساس، إذا كان معظم الفلاسفة المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعيا منهم إلى توفير نصوص، وإنما وعيا منهم أن ترجمة النصوص الفلسفية وإعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفية، وأن فعل الترجمة جزء من ممارسة التفلسف، وأن تجربتهم في الترجمة هي ذاتها تجربتهم في التدريس والدراسة. لا أعني بذلك فحسب أن هايدغر وفوكو وألتوسير ولاكان ودريدا وبوفري وريكور، لا أعني فحسب أن كل واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنف نَقلَه إلى لغته، وإنما بأن كلا منهم لم يفتأ يعدل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها، تلك التعديلات التي يُشار إليها عادة في الكتابات الفلسفية باستعمال عبارة: "التعديل من عندنا". معنى ذلك أن هؤلاء الفلاسفة لا يعتبرون الترجمة مرحلة يعرفها النص ثم يتخطاها كي ينتقل إلى مرحلة الفهم والتفسير، كما لا يعتبرون أنمهمة الترجمة تكمن في إعداد النصوص، ونقل كتب واقتراح مصطلحات، وإنما في إعمال فكر، وإعادة تأويل، فإعادة ترجمة. ولا تخفى الأهمية الكبرى التي اتخذتها إعادات الترجمة هاته، والهزات الفكرية التي أحدثتها، بدءا من الترجمة الألمانية للكتاب المقدس، إلى إعادة ترجمة نصوص ماركس وفرويد والقائمة طويلة.
على هذا النحو فإن ترجمة النصوص الفلسفية لا يمكن إلا أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها. ولن تعود الترجمة مجرد فعل في تلك النصوص، وإنما تغدوتفاعلا معها، لن تعود تفكيرا في تلك النصوص، وإنما تفكيرا بها. أستاذ الفلسفة اليوم مترجم في الضرورة، وتجربته كمترجم تتطابق مع تجربته باعتباره أستاذا وباحثا، فالتفلسف والترجمة عنده وجهان لعملية واحدة. وترجماته لا تقتصر على المؤلفات التي تحمل اسمه كمترجم، وهي ليست مجرد مرحلة يقترح فيها مصطلحات ويهيئ نصوصا. أستاذ الفلسفة اليوم لا يفتأ يترجم، لأنه لا يفتأ يعمل فكره.