اتجاهات الشعر التركي من "الديوان" إلى عصر الإنترنتhttps://www.majalla.com/node/312106/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%B1%D9%86%D8%AA
نشأ الأدب التركي القديم وتطوّر تحت تأثير قوي بالأدب الفارسي الذي نشأ بدوره تحت تأثير قوي بالأدب العربي شكلا ومضمونا. ومثلما كانت اللاتينية هي اللغة الثقافية المشتركة في أوروبا في العصور الوسطى، كانت اللغة العربية تلعب الدور نفسه في العالم الإسلامي. وكان للفرس الأسبقية في اعتناق الإسلام والتفاعل مع الشعر العربي مقارنة بالأتراك الذين استخدموا اللغة الفارسية، في البداية، في إنتاج الأدب المكتوب، واللغة العربية في العلوم الدينية والعلمية.
ومع ضعف حكم الخليفة العباسي في بغداد وشبه استقلال عدد كبير من حُكام الولايات التابعة للدولة العثمانية، بدأت اللغة الفارسية وثقافتها تنتعش في الأطراف الشرقية من الإمبراطورية الإسلامية. وبعد توقُّف دام ثلاثمئة عام من اعتناق الفرس الإسلام، بدأ نشر الأعمال الأولى باللغة الفارسية. وتُعتبر ملحمة "الشاهنامه" للفردوسي نقطة تحوّل لولادة أدب فارسي إسلامي جديد يستلهم الأدب العربي شكلا ومضمونا، ويضيف خصائص متميّزة جديدة لهذا الموروث. وقد أنتج هذا الأدب شعراء كبارا ألهموا الآداب الإسلامية الأخرى، بما فيها الأدب التركي، حتى نهاية القرن الخامس عشر، أمثال الشعراء: أنْوَري، عَطّار، نِظامي، سَعدي، حافِظ، عُمَر الخيّام، جلال الدين الرومي، جامي، وغيرهم كثيرون.
"شعر الديوان"
وفي حين كانت شرائح المجتمع التركي تتعامل مع الشعر الشعبي شفويا من خلال الوزن المَقْطَعي الذي يقوم على عدد المقاطع المتساوية مع الحفاظ على أشكال مختلفة من القافية، فإن تأثير الشعر الفارسي بصورة مباشرة والشعر العربي بصورة غير مباشرة، خلق نوعا جديدا في الشعر التركي، سمّي بـ"شعر الديوان" الذي استخدم لغة هجينة مكوَّنة من التركية والعربية والفارسية، تتسم بكونها لغة نخبوية يفهمها خواصّ الناس من المثقفين آنذاك.
خلق تأثير الشعر الفارسي والعربي نوعا جديدا في الشعر التركي، سمّي بـ "شعر الديوان" الذي استخدم لغة هجينة من التركية والعربية والفارسية
كانت اللغة التركية، في البداية، لا تناسب كثيرا البحور العروضية، لكن حُلّت المشكلة تدريجيا من خلال تحويل صوائت قصيرة في اللغة التركية إلى صوائت طويلة، وإدخال عدد كبير من المفردات والتراكيب اللغوية من اللغتين الفارسية والعربية، وهكذا جرى تكوين لغة تركية "رفيعة" لإنتاج الأدب المكتوب. لم يقتصر شعر "الديوان" على الاستمتاع بالمفردات الفارسية والعربية فحسب، بل وصل الأمر إلى استخدام جماليات الأسلوب والتخييل لهذين الأدبين، فأصبح العديد من "شعراء الديوان" قادرين على كتابة الشعر بثلاث لغات أي التركية والفارسية والعربية، منهم الشاعر فُضولي البغدادي، والشاعر نابي، والشاعر نَفْعي.
استمر الشعر التركي الكلاسيكي الذي سمّي بـ"شعر الديوان" على هذا المنوال حتى نهاية القرن التاسع عشر، إلى جانب الشعر الشعبي والشعر الصوفي، بعدما استقلّ عن الشعر الفارسي وكوّن عالما شعريا متميزا. كما جرت محاولات لتجديد الشعر العروضي التركي لكنها لم تؤدِّ إلى تغيير جذري في الشعر التركي، وكان من الضروري الانتظار حتى القرن العشرين لحدوث مثل هذا التغيير.
مع حلول القرن العشرين، دخل الشعر الديواني فترة محاسبة مع العروض. ثمة أسباب كثيرة تكمن وراء هذه المحاسبة، بينها الحداثة التي شملت جميع مجالات الحياة، وتطوّر أدب تركي جديد تحت تأثير الأدب الغربي، فضلا عن التغيير الذي مرّت به اللغة التركية بعد انهيار الدولة العثمانية المتعدّدة اللغات والثقافات والأعراق، وتأسيس نظام جمهوري ذي طابع قومي من شأنه أن يمنح هوية لغوية قومية للغة التركية. هكذا بدأت محاولات تبديل مفردات فارسية وعربية في التركية العثمانية بمفردات تركية "خالصة". كما شجّعت المؤسسات الثقافية للدولة الجديدة العودةَ إلى الوزن المقطعي الذي كان يُستخدم في الشعر الشعبي الشفوي منذ قرون، بدلا من البحور العروضية التي انتقلت من العربية إلى الفارسية، ومنها إلى التركية العثمانية، علما أن قصيدة الوزن المقطعي تتكوّن من أبيات أو رباعيات ذات أشطر متساوية المقاطع مع الحفاظ على قافية الأشطر كاملة أو جزئيا.
الكلاسيكية الجديدة
ظهر الوزن المقطعي في المقدمة مع محاولات تنقية اللغة التركية خلال العقدين الأوّلَيْن من عمر الجمهورية، مع ذلك لم ينعدم العَروض من الشعر التركي بين عشية وضحاها، فكلّما "نقّيت" اللغة التركية زادت صعوبة استخدام العروض في نظم الشعر باللغة التركية، لأن الشعراء العثمانيين كانوا مضطرّين إلى استخدام لغة تركية هجينة تبنّت حصيلة لغوية كبيرة من العربية والفارسية، إلا أن هناك أيضا شعراء كتبوا قصائد "حديثة" دون الابتعاد عن العروض، في مقدمهم الشاعران يحيى كمال وأحمد هاشم، اللذان يشبّه دورهما بالدور الذي لعبه شعراء مدرسة الإحياء والبعث في الشعر العربي، لذلك سميتُهم بـ"الكلاسيكيين الجدد".
لقد تقفّى يحيى كمال دائما آثار موسيقى القصيدة العروضية لكنه استخدم العروض بمحتوى "حداثي". وهناك اتجاهان طاغيان في شعره، أولهما تجربة شعرية تتميّز بحساسية فردية، وثانيهما ثيمات تاريخية وتقليدية تهيمن على القصيدة، فيُحتفى بالماضي بصورة ملحوظة. أما أحمد هاشم فهو عربيّ وُلد في بغداد، كتب شعرا تركيا لم ينفصل البتة عن موسيقى العروض، لكنه نجح في البقاء داخل دائرة "الحداثة الشعرية" إلى حد بعيد. تلاحَظ في شعره آثار الشك والقلق، بقدر ما هو مليء بالصفو والنقاء بحسب مفهوم الشاعر الفرنسي بول فاليري.
مع حركة "الكلاسيكية الجديدة" الآنفة الذكر، التزم الشعراء التقليد الشعري العثماني، وتمكنوا من خلق قصيدة "حديثة" ذات طابع كلاسيكي من خلال مفاهيم مثل الرمزية والشعر الصافي والموسيقى في الشعر، سبق أن كانت موضع نقاش في الشعر الغربي، وكانت الحركة نتاج تطور ثقافة المدينة لدى النخبة العثمانية من خلال نمو الفنون الجميلة كالموسيقى والمسرح والرسم، ومن الطبيعي أن تكون لها انعكاسات على الأدب والشعر التركيين.
ثلاثة اتجاهات
وقد ظهرت ثلاثة اتجاهات سياسية متعارضة في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، بعدما ضعفت تدريجيا من حيث القوة السياسية والعسكرية، وهي: الاتجاه الغربي، واتجاه الأمة الإسلامية، والاتجاه القومي التركي. بينما دافع الشاعر توفيق فِكْرَت بحماسة عن الاتجاه الغربي في مجال الشعر، فقد دافع الشاعر محمد عاكف أرصوي، مؤلف النشيد الوطني لتركيا الحديثة، عن إحياء الدولة العثمانية بصفتها دولة للأمة الإسلامية، أما الشاعر محمد أمين يُورْداكُول فدافع عن القومية التركية في الشعر والأدب. واستمر هذا النقاش بصورة مكثفة حتى الأربعينات، إلا أن الحركة التي برزت خطوة بخطوة بين هذه الاتجاهات كانت القومية التركية كفكرة أيديولوجية. وأدّت الهزائم في حروب البلقان وطرابلس الغرب إلى تضييق الحدود العثمانية، وقلبِ بنية الدولة المتعددة الثقافات رأسا على عقب، مما عزّز بقوةٍ ظهورَ القومية التركية وفكرة الدولة القومية، وخاصّة بعد الهزيمة التي منيت بها الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
مع النظام الجمهوري بدأت محاولات تبديل مفردات فارسية وعربية في التركية العثمانية بمفردات تركية "خالصة"
مع تطوّر الأيديولوجية التركية، صار من الضروري التخلّي عن العروض الذي اعتُبر وزنا "غير تركيّ" لحساب الوزن المقطعي الذي اعتُبر شكلا شعريا قوميا، مما يعني الابتعاد عن الموسيقى والإيقاع اللذين اكتسبتهما القصيدة الكلاسيكية التركية عبر العصور. فشهدت القصيدة التركية بهذا الابتعاد خسارة موسيقية، إلا أن العودة إلى الوزن المقطعي كانت "ابتكارا" سياسيا من النظام الثقافي الرسمي، مع ذلك لم يُعِرْ شعراء مهمون في تلك الفترة، مثل يحيى كمال وأحمد هاشم ومحمد عاكف أرصوي، اهتماما بهذا "الابتكار".
لم يستبعد الشاعر يحيى كمال توسّعَ الشعر الحديث في فرنسا، إلا أنه رأى أيضا أنه من الضروري أن تظهر نزعة محلية فريدة في الشعر التركي، فشدّد على الصوت والموسيقى في الشعر دون التضحية بالمعنى. وعلى الرغم من أن يحيى كمال وأحمد هاشم يمثلان اتجاهين مختلفين في الشعر التركي الكلاسيكي (الجديد)، إلا أنهما أصبحا مصدر إلهام لشعراء من الأجيال اللاحقة.
وعلى الرغم من الترويج الرسمي للوزن المقطعي في الشعر، فإن هذا الوزن لم يتمكن من إنتاج شعراء مهمين عاشوا بقصائدهم حتى اليوم، باستثناء بعض الأسماء التي عاشت إلى يومنا مثل أحمد مُحِبّ دراناس، وجاهد صدقي طرانجي، ونجيب فاضل كيساكوريك الذين ابتكروا قصيدة فريدة باستخدام الوزن المقطعي في الأربعينات.
ناظم حكمت
بعد هذه المراحل التي مرّ بها الشعر التركي الحديث، برز نوع جديد من الشعر ليس له أي اتصال عضويّ مع العروض أو الوزن المقطعي، انتشر بالتوازي مع التطورات الجارية في الشعر الحديث على صعيد العالم. الشاعر ناظم حكمت أول من يمثل هذا النوع من الشعر في اللغة التركية. فقد تبلور هذا الشعر الجديد مع الرياح التي أحدثتها الثورة السوفياتية عام 1917، وألهم الأيديولوجيات الاشتراكية والثورية التي ظهرت في مطلع القرن العشرين.
كتب ناظم حكمت قصائد على الوزن العروضي والقافية في شبابه المبكر، إلا أنه تأثر في وقت لاحق تأثرا كبيرا بالجانب الشكلي لقصيدة الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي الذي كان من أبرز روّاد النزعة المستقبلية في الشعر الروسي، وذلك بعد سفره إلى الاتحاد السوفياتي للدراسة، خلال السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية، كما تأثر بالأجواء التي خلقتها البيئة الفنية هناك، إلا أن هذه النزعة لم تخترق شعر ناظم بعمق لكنها أثرت في بنية القصيدة وشكلها كما ذكرت آنفا، فأبدع قصيدة ذات نزعة واقعية اجتماعية تتسم بإحساس فريد وقويّ بالإيقاع الشعري.
مع "الكلاسيكية الجديدة" التزم الشعراء التقليد الشعري العثماني، وتمكنوا من خلق قصيدة "حديثة" ذات طابع كلاسيكي
حقق ناظم حكمت عالمية حقيقية في شعره من الثلاثينات إلى الأربعينات، حيث ابتكر أعمالا تجريبية تقترب من قصيدة النثر بفضل أساليب تعبيرية جديدة. تُعتبر قصيدتاه "الشيخ بدر الدين بن قاضي سيماونة"، و"مشاهد إنسانية من بلادي" من أكثر الأعمال فرادة وإبداعا، ليس من حيث محتواها، بل من حيث تقنيات الشعر المستخدمة فيها أيضا. لا نرى صدى هاتين القصيدتين لدى بعض الشعراء الأتراك فحسب، بل نراها أيضا لدى شعراء عرب مثل عبد الوهاب البياتي (ديوان "قمر شيراز" وأعمال أخرى)، وصلاح عبد الصبور (ديوان "الناس في بلادي" ومسرحية "مأساة الحلاّج" نموذجا).
تُعتبر الأربعينات وما بعدها فترة تطوَّر فيها الشعر التركي الحديث بروافد شعرية مختلفة تماما، على الرغم من الأجواء السياسية المتوترة، مما أسفر عن اتّساع الفجوة بين الجيل القديم والجيل الجديد من الشعراء. نتيجة لذلك بدأ الشعراء يلجأون إلى الانفراد والغموض في الإنتاج الشعري. علينا أن نذكر في هذه الفترة شاعرين بشكل خاص، هما فاضل حسني دَغلارجة وعساف حالَتْ شلبي. فقد خلق الأول جوا صوفيا في قصائده محلقا في عالم كوني، بعد تخلّيه عن شعر الوزن المقطعي. أما عساف حالَتْ شلبي الذي ينتمي إلى عائلة مولوية، فقد تجوّل في جو واسع من الشعر الصوفي الذي لا يمتد إلى الصوفية الإسلامية فحسب، بل إلى الشعر الهندي والصوفية البوذية أيضا.
حركة "غريب"
في الفترة نفسها، ظهرت حركة بقيادة الشاعر أورهان وَلي كردِّ فعل على "الكلاسيكية الجديدة" وشعر الوزن المقطعي، دعت إلى كتابة الشعر للغالبية الضعيفة اقتصاديا، وليس للأقلية النخبوية، وإلى كتابة شعر بسيط وسهل الفهم. وبما أن القصائد التي نشرها أورهان ولي في المجلات اعتبرت "غريبة"، فقد اشتهرت بمسمى "حركة غريب" التي قامت على ثقافة المدينة، والتي تناولت حياة سكان المدينة بموضوعات بسيطة ومفهومة، وبلغة خالية من الأوزان العروضية أو المقطعية. حركةٌ كانت بمثابة ردّ فعل كبير على النخبوية والبحث عن الكمال في الشعر. وتنظر قصيدة "الغَريب" إلى العالم بِحَيْرة طفل، بعيدة عن الصور الشعرية والمحسّنات اللفظية، مستخدمة بكثرة أساليب التهكم والسخرية.
على الرغم من هذا الإصلاح الشعري الذي أطلقته حركة "غَريب" في الشعر التركي، إلا أنه من الصعب القول إنها خلقت جماليات فريدة دامت آثارها لأجيال مقبلة. مع ذلك فهي محطة مهمة من محطات الشعر التركي الحديث التي تسمى أيضا حركة "الجديد الأوّل" باعتبارها أول حركة شعرية تركية قامت بـ"تحرير" الشعر التركي من كل أشكال الإيقاع والبلاغة، وعرّفته بالتهكم والعفوية واللغة اليومية.
بذلك أصبح في الشعر التركي الحديث تياران شعريان بارزان، أحدهما "فرديّ" بتأثير حركة "غريب"، وثانيهما "واقعي اجتماعي" بتأثير ناظم حكمت. ينسب إلى التيار الأول شعراء أبرزهم بدري رحمي أيوب أوغلو وبهجت نجاتيغيل، والتيار الثاني شعراء في مقدّمتهم أتّيلا إلهان وأحمد عارف.
الجديد الثاني
كان عام 1950 نقطة تحوّل مهمة انتقلت فيها تركيا إلى نظام تعدد الأحزاب. وبعد فوز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس في الانتخابات، بدأت تركيا بالاندماج في النظام الرأسمالي العالمي، وتشكّلت النواة الحقيقية لفكرة "الفرد" خلال هذه الفترة الزمنية. على الرغم من الارتياح المؤقت في الولاية الأولى من حكومته، إلا أن الهوة في عدم المساواة في هيكل النظام بدأت تتعمّق، مما أدى إلى الهجرة من القرى إلى المدن، وبالتالي تحويل ثقافة المدينة إلى بنية جديدة ومشاكل جديدة. وتعمق الاستقطاب الأيديولوجي بعد وصول الحزب الديمقراطي إلى السلطة للولاية الثانية، وذلك بسبب الضغوط السياسية المتزايدة في البلاد، حيث حُظرت بعض الدواوين الشعرية واعتُقل شعراء بسبب قصائدهم.
في مثل هذه البيئة، ظهرت حركة شعرية مؤثرة لا تزال محلّ إلهام ونقاش حتى يومنا هذا. لم يقترح شعراءُ هذه الحركة، التي سُمّيت "الجديد الثاني"، بيانا مشتركا. في الواقع، قد لا يُعتبر هذا الاتجاه "حركة"، وإنما مفهوم شامل يجمع اتجاهات مختلفة تحت سقف واحد. يوجد تحت هذا السقف شعراء نشروا قصائدهم في مجلات مختلفة، ولهم ميول أيديولوجية مختلفة. من أبرز هؤلاء الشعراء: إلهان بَرْق، تورغوت أويار، أديب جانسيفير، جمال ثُرَيا، أجه آيهان، سيزائي كاراكوتش، وغولتين آكين.
هؤلاء الشعراء، الذين لا صلة، بعضهم ببعض، كتبوا قصائد "فردية" تتسم بالتجريبية والانطواء والغموض، مليئة بصور شعرية مكثفة، وبلغة وأشكال شعرية غير معتادة. على عكس قصائد "غريب" (الجديد الأوّل)، فهي قصائد تميل إلى الغموض والمعنى الصعب المنال. يقول الشاعر جمال ثُرَيا في نصه الذي يحمل عنوان "الفولكلور عدوّ للشعر" إن الشيء الرئيس في الشعر ليس "سرد قصة"، بل "الحمولة الشعرية" التي يجب إنشاؤها بين الكلمات. هكذا ساد التصوّر عن شعر مفتون بالكلمة بدلا من الشعر ككلّ. ولعلّ القاسم الأكثر شيوعا لدى شعراء "الجديد الثاني"، الغموض في الشعر واستلهامه من الحداثة الغربية والسوريالية والتجريدية والرمزية. لهذا السبب عُرّف بصفات مثل الشعر المجرَّد، والشعر الذي لا معنى له، والشعر المضاد، والشعر المدني. ويذكرنا شعر "الجديد الثاني" بـالشعر الحداثي الذي تطوّر من خلال مجلة "شعر" التي صدرت بقيادة يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس. والجدير بالذكر أن الجديد الثاني في تركيا والشعر الحداثي العربي تزامنا في الفترة نفسها تقريبا، باعتبارهما حركتين تستلهمان من الحداثة الغربية في الشعر مع إعادة اكتشاف الميثولوجيا والتقاليد الشعرية القديمة.
ابتداء من السبعينات نرى شعراء بأمزجة مختلفة، حداثية وتجريبية إلى حد ما، لكن القاسم المشترك بينهم شغفهم بالشعر نفسه كنوع تعبيري جمالي
غالبية شعراء "الجديد الثاني" تميل إلى اتجاهات سياسية مختلفة: يسارية، اشتراكية، فوضوية، أو إسلامية. وأبرز قاسم مشترك بينهم هو أنهم، على عكس الشعراء "الرسميين" الأوائل للجمهورية، يبتعدون عن الخطاب القومي والشعبي. وقد فتح هؤلاء الشعراء مجرى نهر جديد للشعر التركي من حيث علاقتهم الخاصة بالموسيقى وفنون الرسم، والفهم المختلف للتاريخ، وتجديدهم في الشكل الشعري.
أحد هؤلاء الشعراء إلهان بَرْق، تجوّل في محور الشعر الاجتماعي في الأربعينات، لكنه أصبح من أشدّ المدافعين عن شعر "الجديد الثاني" في الخمسينات، وأخضع شعره للتغيير والتجديد المستمرّين. تأرجحت قصائده بين المعنى واللامعنى، كما أنه يستخدم الطبيعة والأشياء بأشد الطرق إثارة للاهتمام في قصائده، فضلا عن أنه شاعر يفكر في قضايا الشعر ونظريته.
من شعراء التيّار نفسه تورغوت أويار الذي بدأ بكتابة قصائد لها هموم اشتراكية خاصة بالأناضول، أصدر في عام 1959 ديوانا تحت عنوان "أجمل عَرَبِسْتان العالم" كشف فيها عن اضطرابات الإنسان وصراعاته الداخلية، والمد والجزر في العواطف بدقة شعرية عالية، مع استخدام شيء من التهكّم الكامن، حيث يكوّن الشاعر صورا مركّبة من الوجود والعدم والحساسية الاجتماعية.
يحمل الشاعر أديب جانسفير إلى شعره الحالات النفسية للفرد الذي يعيش في المدينة، ويخاف من العالم الخارجي. له لغة سردية مثيرة في معظم قصائده، كما أنه يحاول الابتعاد إلى حد ما من "اللامعنى"، ويستفيد من أساليب النثر والأشكال الفنية الأخرى ليفتح شعره إلى نص متعدّد الأصوات.
أما الشاعر جمال ثُرَيا فقد أتى بآفاق جمالية جديدة لشعر "الجديد الثاني"، وهو معروف بقصائده المثيرة في الحب. وتعتبر هذه القصائد بمثابة أناشيد للجسد ترتقي في أحيان كثيرة إلى درجة الإيروتيزم، يذكّرنا بقصائد الشاعر نزار قبّاني. وقد أصبح ديوانه "أوفيرجينكا" من كلاسيكيات الشعر التركي الحديث.
على عكس شعر جمال ثُريا، يختلف شعر أجة آيهان في كونه يحتوي على صور شعرية غامضة، إذ يحاول الشاعر خلق لغة ضد اللغة من طريق تعطيل تركيب الجملة ونحوها. في إمكاننا أن نقول إنه فتح الشعر التركي من مستوى اللامعنى في شعر إلهان بَرْق إلى تعدد المعاني، إلا أن الغموض يكتنف شعره أيضا إلى أقصى الحدود، الأمر الذي يوجد صعوبات عند ترجمته إلى لغات أخرى.
من أكثر الشعراء إثارة ضمن هذا التيار، الشاعر سيزائي كاراكوتش الذي كتب نوعا من الشعر الميتافيزيقي. وقد تقاطعت في شعره عناصر سوريالية مع تقاليد إسلامية صوفية حديثة. هذه الصنيعة، أي عدم إدارة ظهره للتقاليد الأدبية الإسلامية والعثمانية، أتاحت له إثراء شعره من حيث المضمون والصورة. وله أيضا ترجمة تحت عنوان "من روائع شعر الإسلام" التي نُشرت عام 1967، وهي ترجمة عبر اللغة الفرنسية وعبر شروح قديمة بالتركية العثمانية، تتضمن قصيدة "البردة" لكل من كعب بن زهير والإمام البوصري، والقصيدة البديعية لابن جابر، ومرثية الأندلس لأبي البقاء الرندي، وقصيدة لكل من حسّان بن ثابت، وذي النون المصري، بالإضافة إلى بيت واحد لكل من أبي الطيب المتنبي وأبي نواس.
الشاعرة الوحيدة بين شعراء "الجديد الثاني" غولتين آكين التي نعرفها بقصائدها الغنائية الفريدة، تتحقق في هوية المرأة داخل المجتمع الذكوري، مع وجود نكهة من إيروتيزم مبطن في قصائدها. مع ذلك يشتمل شعرها على موضوعات عدة من العالم العاطفي للإنسان إلى أحداث اجتماعية أو الطبيعة في الأناضول. تحتل الشاعرة مكانة متميزة في الشعر التركي الحديث من خلال قصائدها العميقة التي تتضمن معاني متعددة الطبقات.
الستينات وما بعدها
بعد النصف الثاني من الستينات برز شعراء مثل حلمي ياووز وأوزديمير إينجة تحت مظلة تيار "الجديد الثاني" لكنهم حافظوا على فرادتهم وأصالتهم. لا بدّ من الإشارة إلى شعراء شباب في تلك الفترة مثل أطاؤول بهرام أوغلو، وعصمت أوزيل، وجاهد ظريف أوغلو، الذين جعلوا من "الجديد الثاني" نقطة انطلاق لقصائدهم. بينما يغلب على شعر أطاؤول بهرام أوغلو جوّ يساري رومانسي، فإن شعر عصمت أوزيل وجاهد ظريف أوغلو يهيمن عليه جوّ "إسلامي" بمستويات مختلفة، مع بروز الفوضوية في شعر عصمت أوزيل الذي تميز باختياره للمفردات وحساسيته الاجتماعية التي تمتد إلى التمرّد في أحيان كثيرة، وسبره لمشاكل الوجود.
أما الشاعر رفيق دورباش فيتقدّم على مسار "الجديد الثاني" مع ميله نحو الخط الاجتماعي المزيّن بمشاكل الناس العاديين وتناقضاتهم في المدينة. يغلب على شعره طابع الحزن والعناصر الغنائية. للشاعرة سَنّور سيزار خط مماثل بلغتها البسيطة وتعبيرها الواعي دون الانفصال عن شعر الواقعية الاشتراكية، الأمر الذي قد يجعل شعرها أحيانا يقترب من الخط الملحمي. ويسير الشاعر حسن حسين كوركمازغيل على الخط نفسه مع ميله الى الشعر الشعبي في الأناضول تحت تأثير ناظم حكمت.
هدفت المذكّرة العسكرية التي أعلنت في 12 مارس/ آذار 1971 إلى منع التقدم في عملية التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والحريات، وقد اعتُقل بعد إعلانها العديد من المثقفين وتزايدت الضغوط على الساحة الثقافية والفكرية، مما دفع بعض الشعراء الذين كانوا يسيرون في درب "الجديد الثاني"، الى التركيز أكثر على القضايا الاجتماعية، فتطوّر خطاب ثوري في إطار نقاشات دارت حول ثنائية الشعر التقدمي والشعر الرجعي. وأصبحت لغةُ نظريةِ الشعر حادّة إلى حد كبير، الى درجة أن حركة "غريب" و"الجديد الثاني" اتُهمتا بأنهما حركتان رجعيّتان، لأن حركة "غريب" على حدّ زعمهم منقطعة عن الجمهور باعتبارها حركة طليعية. أما تيار "الجديد الثاني" فتحول في رأيهم بصوره الشعرية الغامضة إلى حركة نخبوية وبالتالي منقطعة عن الجمهور أيضا. وهؤلاء "الثوريون" بدورهم كانوا يُتّهَمون بإنتاج شعر "هادف".
لم تظهر منذ الثمانينات حركة شعرية جديدة، بل أصبحت شعريةُ كلِّ شاعر بمثابة حركة فردية بحد ذاتها
في هذه الفترة برز شعراء طوّروا صوتهم الشعري الفريد، مع أنهم قد انطلقوا من تقاليد شعرية اجتماعية وشعبية. من بين هؤلاء الشاعر أحمد تيلّي الذي يميل شعره إلى غنائية هشّة خاصة ببيئة البحر المتوسط. يتتبّع أحمد تيلّي في شعره نسيجا اجتماعيا يتضمن ورطات الفرد وأزماته الداخلية. في الوقت الذي يكتب فيه الشاعر غولتكين أمرة، من الجيل نفسه، قصيدة اجتماعية تهيمن عليها خاصية تعدّد المعنى. يتحوّل الشاعر وَيْسَل تشولاك إلى مساعٍ مختلفة في الشعر، من التصوير إلى السرد، ومن الصوت الغنائي إلى الوجودية. أما الشاعر عدنان أوزير فأقام علاقات غير مباشرة مع الشعر اللاتيني بفضل إلمامه باللغة الإسبانية، فجمع بين ما هو محلّيّ وحديث من خلال قصائد مستوحاة من الفولكلور الأصيل أو دالّات محلية لريف تراقيا.
وابتكر في الفترة نفسها الشاعر حسين فرحات سردا شعريا لا علاقة له باتجاهات قومية بحتة، وإنما له اتجاه نحو الجذور والتاريخ ومصادر فولكلورية أسطورية. في سياق مماثل، كتب الشاعر أحمد أرهان شعرا قويا يمزج بين القضايا الاجتماعية والفردية بصوت فريد متميّز، ولعله من الشعراء الذين يعكسون الفوضى والظلام في شعره على أفضل وجه.
أمزجة
ابتداء من السبعينات حتى الآن، نرى شعراء بأمزجة مختلفة، حداثية وتجريبية إلى حد ما، منهم على سبيل المثل لا الحصر متين آلتيؤوك، أنيس باتور، غوفين طوران، سينا أكيول، وطارق غونيرسال. لكل واحد منهم صوت شعري خاص به، لكن القاسم المشترك بينهم هو شغفهم وولوعهم بالشعر نفسه كنوع تعبيري جمالي.
تشكّل معاناة الإنسان الداخلية وشعوره بقلق اجتماعي، الموضوعَ الرئيس لشعر متين آلتيؤوك. استطاع الشاعر أن يستفيد من كل روافد الشعر التركي تقريبا، قديمها وحديثها، ليبتكر لغة شعرية حديثة. أما أنيس باتور فلم ييأس من تجربة أشكال وإمكانات شعرية مختلفة، فتوجّه إلى محاولات مختلفة في الشعر شكلا ومضمونا. نلاحظ في شعره هدوءا ورزانة لافتين حتى عند نقله أذواقا غنائية للقارئ. فهو رمز للشعر الطليعي والتجريبي المتعدّد الثقافات في إنتاجه الغزير سواء شعرا أو نثرا، يعكس ثقافته العميق.
في الفترة نفسها تطوّر الاتجاه الإسلامي الحديث بوتيرة معينة لغاية عام 1980 من خلال مجلات أدبية مثل "ديريليش"، و"كتاب"، و"ما وَراء". وقد اهتم شعراء هذا الاتجاه بمشاكل تتعلق باللغة وشكل الشعر، فضلا عن معايير أيديولوجية في كتابة الأدب. من بين هؤلاء، تجدر الإشارة بصورة خاصة إلى الشاعر جاهد ظريف أوغلو الذي كان قريبا من مفهوم "الجديد الثاني" للشعر، ويتبع المسار الذي سبق أن فتحه الشاعر سيزائي كاراكوتش. وكان الكاتب راسم أوزدين أورين أبرز الأسماء بين هؤلاء في مجال القصة القصيرة.
من الشعراء الإسلاميين الحديثين الذين نشأوا في مدينة مرعش، الشاعر أرديم بيازيد الذي تناول في شعره الفوضى والعزلة والغربة التي خلقتها المدينة، لكن هناك من اتّهمه بكتابة شعر "هادف". كما أن هناك شاعرين مهمين آخرين لهما نهج مماثل هما جاهد كويتاك وإلهام جيجيك.
يجب أن نشير هنا إلى أنه من الصعب وصف كل قصيدة "صوفية" بأنها قصيدة مبنية على مصادر إسلامية، كما أن هناك أيضا خطا شعريا صوفيا لا علاقة له بالمراجع الإسلامية، سندرك ذلك أكثر عند تنوّع الشعر التركي بعد الثمانينات.
تغيّرات جذرية
شهد الشعر التركي الحديث تغيرات جذرية بعد الثمانينات. وعلى الرغم من أن الحياة الثقافية انطوت على نفسها بعد الانقلاب العسكري الذي جرى في 12 سبتمبر/أيلول 1980، إلا أن القيم المؤسسية والأيديولوجية للفكرة الليبيرالية بدأت تنتشر في جميع أنحاء تركيا مع تولّي رئيس الوزراء تورغوت أوزال الحكمَ في البلاد عام 1983. وتقاطعت هذه الانطلاقة المدنية مع الضغوط الناتجة من الانقلاب العسكري، مما أحدث حالات عاطفية مشوّشة في الثقافة الجديدة بالمدن، من شأنها تمهيد الطريق لانطواء المثقفين على نفسهم وانعزالهم. هذا ما يفسّر تأثر بعضهم بشعر "الجديد الثاني" أكثر من الجيل الذي سبقهم، بينما توجّه بعضهم إلى تأليف قصيدة حديثة من تقاليد الشعر الديواني القديم، ومحاولة بعضهم الآخر إعادة إحياء حركة "غريب"، وهم أسرعُ مَنْ درس رسمهم خلال فترة قصيرة من بين هؤلاء الشعراء. كما اعتمد شعراء آخرون على التقليد التعبيري للشعر الأنغلوسكسوني، وغمز آخرون للمبادرات التجريبية والطليعية في الفن الغربي.
في خضم كل هذه الاتجاهات، من الأفضل الحديث عن الشعراء كأفراد، في الوقت الذي لم تظهر فيه حركة شعرية جديدة، فأصبحت شعريةُ كلِّ شاعر بمثابة حركة فردية في حد ذاته. للمرّة الأولى يلفت انتباهنا الإثراء الجادّ والتنوّع، في اللغة والشكل وأساليب التعبير. نجد التعمق في رحلة الشاعر الداخلية، فتتضيّق علاقته بالعالم الخارجي أكثر فأكثر. ربما هذا هو السبب الرئيس وراء عدم تشكيل أي حركة في الشعر التركي من الثمانينات فصاعدا.
إن سحر الكلمات وثراء الصوت والمعنى هي السمات المميزة لكلّ شعراء هذه الفترة تقريبا. على سبيل المثل، استخدم الشاعر كوتشوك إسكندر (الإسكندر الصغير) لغة أقرب إلى لغة يومية، حتى سوقية أحيانا تصل إلى درجة الشتم، فاقترب بذلك من ثقافات فرعية مختلفة. له لغة تحريضية على الأيديولوجيات القمعية والنزعة العسكرية والتمييز الجنسي. ونرى عكس هذا الاتجاه "العنيف"، مَظاهر متفاوتة من الغنائية الحزينة في شعر حيدر أرغولان، حيث تفوح من شعره رائحةُ صوفيّةٍ فريدة، تستمدّ قوّتها من تصوّف الأناضول ذي الطابع "العلماني" إذا جاز التعبير. وبرز في الفترة نفسها شعراء مثل طغرل طنيول، وفورال بهادر بايريل، اللذين اتّبعا المسار الذي فتحه الشاعر حلمي ياووز حيث جعل من تقليد شعريّ قديم بنية شعرية حديثة وقوية.
تميز العقد الأول من القرن 21 بظهور شاعرات متميزات، فَتَحْنَ قصائدهنّ بحرّية على الاستعارة وعلى المحور الأنثوي
كما يمكننا الحديث عن شعر روحاني بعيد من التوجهات الشعرية الإسلامية، مما يعني محاسبة العالَم الذي يزداد فوضى دون انقطاع. هذا النوع من الشعر يتأرجح على الدوام بين الإيمان والكفر، والوجود والعدم، وبين "كلّ شيء" و"لا شيء"، ويعطي القارئ انطباعا بعفوية غريبة، ولكن عند فحصها بعناية فإن التفاصيل الدقيقة في بنية الدوّامة الشعرية تثير الحيرة والدهشة. وعلى الرغم من ارتباطه ببعض الاتجاهات الحداثية في الغرب، إلا أنه يستوحي من الأساطير الشرق أوسطية ودالّاتها الشعبية.
شاعرات
في هذا السياق تبرز ثلاثة أصوات نسائية: لالة مولدور، وغولسالي إينال، ونيلغون مرمرة.
إن قصيدة لالة مولدور هي قصيدة مفرطة النشاط، كما وصفتها الشاعرة ألتشين سيفغي صوتشين في إحدى مقالاتها عن مولدور، فهي ليست ثابتة بل تتحرك دائما، وهي على دراية لكنها لديها فضول لا ينتهي أبدا. قصيدة تشكّك في الكون، ترمي الحجارة لقياس عمق آبار لا نهاية لها، ترقص مع الكون والطاقة الكونية، تدخل في حوارات مع كل الديانات تقريبا، متصالحة مع التصوّف ونبيّ الإسلام، تتطرّق إلى علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع بدءا من الفرد، وخلاصة القول إنها قصيدة لديها ما تقول عن التاريخ والأحداث الطبيعية والفضاء والسياسة الوطنية والسياسة العابرة للأوطان.
يبرز في شعر غولسالي إينال موضوعان: الطبيعة والأساطير التي تشكل مصادر "روحانية" للشعر. في هذه الدوّامة يبدو الوجود والموت موضوعين رئيسين في شعرها. أما الشاعرة نيلغون مرمرة فقد بَنَتْ جسورا مع العالم الكوني، مستلهمة من قصيدة المجاهرة والاعتراف لسيلفيا بلاث، لكن القصيدة التي أبدعتها ليست نسخة من شعر بلاث بل فريدة من نوعها، فإدراكها للزمن يجد مكانا لنفسه على محور العدم، الأمر الذي جعل قصيدتها يطغى عليها طابع الغربة والغرابة.
وعلى الرغم من القضايا المذكورة آنفا، فإن الشعر الاجتماعي لم يختف في هذه الفترة، بل على العكس استمر بمقاربة حديثة. ومعظم شعراء هذه المقاربة مرّوا بتجربة السجن. من هؤلاء الشعراء متين جنكيز، طغرل كسكين، شكرو أرباش وغيرهم. ثمة شاعر احتل مكانة خاصة في اتجاه الشعر الاجتماعي في تلك الفترة هو أميرخان أوغوز الذي كتب أحد ديوانَيْه في السجن، إلا أنه أبدع قصيدة لا يمكن إدراجها في شعر السجن، فله غنائية تلفت الانتباه في القصائد التي كتبها تحت تأثير الشعر اللاتيني، كما أنه ينفتح على ما هو جديد في اللغة والشكل والخطاب، فيرفرف في فضاء قصيدة النثر بحرّية. تسيطر على شعره حساسية ممزوجة بالحزن والألم والهشاشة، فضلا عن تعاطفه مع القضية الفلسطينية.
نرى أيضا شعراء "اجتماعيين" يكثرون استخدام اللغة السردية في شعرهم، يبدو أنهم يستلهمون الشعر الأنغلوسكسوني نظرا لوصفهم الأماكن ومشاهد مختلفة للناس في الطبيعة، وقربهم من ثيمات تتضمن الرحلة والسفر، أبرزهم الشاعر جواد تشابان، والشاعر رُوني مرجولياس.
بعد الألفية
مع اقترابنا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تسبب الفهم الحداثي الذي أنتجته فكرة الليبيرالية في إضفاء طابع "بلاستيكي" على الفنون، وقد أخذ الشعر أيضا نصيبه من هذه العملية التي شهدتْ ازديادا ملحوظا في التجربة والتفرّد والغربة والغرابة. وقد تسببت العولمة والأجواء الفوضوية والتوتر الناجم عن الحروب، في انتشار روح التهكم والسخرية في النصوص الشعرية التي تبدو واضحة عند بعض الشعراء، وضمنيا عند الآخرين. كما نلاحظ ازديادا كبيرا في عدد الشعراء الذين بدأوا يجعلون من مشكلة الوجود محور قصائدهم. للمرّة الأولى تشابك الوجود والعدم، والشعر والفلسفة، بهذه الدرجة في الشعر التركي. كما نلاحظ زيادة في عدد الشاعرات، على سبيل المثل نذكر منهن عارفة قلندر، ديدام ماداك، بيرهان كسكين، بيجان ماتور، آسُمان سوسام، نيلاي أوزير، وغيرهنّ كثيرات. ومن الذكور برز شعراء كثيرون على سبيل المثل عمر إرديم، شرف بيلسيل، آيدين أفاجان، حسن أركيك، وغيرهم.
إن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو الفترة التي فرضت فيها أيديولوجيا الاستهلاك هيمنتها. في الوقت الذي وجّهت فيها التطورات التكنولوجية سكان المدن، قديمهم وجديدهم، الذين سعوا إلى أن يصبحوا أفرادا في رحاب الإنتاج الجديد، فقد ظهرت الإنترنت كشبكة تواصل تشمل العالم كله، فغيّرت أنماط التواصل في العلاقات الإنسانية، مؤدّية إلى ظهور نماذج جديدة من الوحدة والعزلة والغربة. وقد أخذ الشعر أيضا نصيبه من هذا التغيير.
هناك نقطة أخرى تجذب انتباهنا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وهي ظهور شاعرات متميزات، فَتَحْنَ قصائدهنّ بحرّية على الاستعارة، وعلى المحور الأنثوي لمشكلة الوجود، والاعتراض على اللغة الذكورية، والبحث عن هويتهنّ من خلال الشعر. بالتوازي مع ذلك، أصبح التهكّم والسخرية أحد العناصر المحددة لدى العديد من شاعرات هذه الفترة. ومن بين الشاعرات البارزات أليف صوفيا، ألتشين سيفغي، صوتشين، غونجة أوزمان، بيتول دوندر، هلال كاراهان، خيرية أونال، زينب أركان، دويجو كانكايتسين، وديدام غولتشين أرديم. أما من شعراء جيل الألفية ممن حاولوا إنشاء صوتهم المتميز في شعرهم، نذكر محمد أرتة، غوكشينور شلبي أوغلو، فخري غوللو أوغلو، إرسون شيبلاك، سيّدخان كومورجو، أفة دويان وغيرهم كثيرون. ويُعتبر الشاعران سليم تيمو ولال لاليش اللذان يكتبان باللغتين التركية والكردية على حد سواء، من أبرز الأسماء الحديثة التي جلبت الدالّات الكردية وقضاياها السياسية إلى الشعر.
تركز الثيمات التي يستخدمها شعراء هذه الفترة في قصائدهم في الغالب على العالم الداخلي للفرد، وبيئته القريبة، والحنين إلى اللحظات الجميلة في ثقافات محلية غابرة، والتذمّر من انعدامها في الوقت الحاضر، وتفسّخ العلاقات بين الأفراد، ورحلة الإنسان في حياته اليومية. بالإضافة إلى هذه الثيمات هناك أصوات شعرية تفكّك الصدمات والحالات الوجودية للإنسان، مع تعرية الأقنعة الظالمة على المستويين المحلي والعالمي. وعلى هذا المنوال، يستمر الشعر التركي اليوم في التطور بصورة ديناميكية من خلال مجلات شبابية غير محترفة ومجلات إلكترونية بجانب المجلات المطبوعة المحترفة.