"كتاب إذا قرئ من أوله كان كتابا، وإذا قرئ من آخره كان جوابا/ كتاب ثان ليس فيه حرف منفصل/ كتاب ثالث ليس فيه الألف واللام/ كتاب رابع يخلو من الحروف العواطل/ كتاب خامس أوائل سطوره ميم وآخرها جيم/ كتاب سادس يقرأ مستقيما نثرا ويقرأ معرجا شعرا/ وكتاب سابع يفسر على وجه بالمدح وعلى وجه بالقدح...".
هذا نزوع مغامر تجاسر عليه بديع الزمان الهمذاني (358/398 ه) في تجريب تأليفه الغريب والمدهش، بارتياده منطقة محفوفة بالخطورة، لها علاقة بفضيلة اللعب. اللعب الذي ارتهنت إليه فلسفة مراهناته المشاغبة في ابتكار نصوص غير اعتيادية، لا من باب ترف لغوي يزعمه، ولكن من باب مقدرة فنية ومهارة أدبية خارقتين، فضلا عن بصيرة ضالعة في الاختراق، تفصح عن حذاقته وعمقه واستشرافه.
النماذج المشار إليها أعلاه، أعلنها في مناظرته الشهيرة في وجه خصمه الخوارزمي، وقد أصابه في مقتل صمت حينما راهنه على تأليف نصوص مشروطة بهذا النوع من النسج المحير، والتدبير الملغز، أشبه ما تكون محتكمة إلى خوارزميات تقتضي امتلاك معارف رياضية لا لغوية ونحوية وأدبية فحسب.
ما يبدو صورة عن كثب لمنطق الصنعة عند الهمذاني، وما يؤاخذه عنه البعض بالتصنع، إنما هو ترجمان لحداثة كتابة الهمذاني الاستباقية في عصره، إذ أن المسألة لا تقف عند لعبة لغوية تستهدف الإدهاش بأيما طريقة استعراضية أو بهلوانية، بل هي لعبة جمالية أعمق، من صميم وعي فني وقلق إبداعي حادّين، يرومان خلق أشكال جديدة في التأليف غير المعتاد، واختبار تقنيات غير مستعملة سابقا في بناء النص المغاير، وتجريب أدوات غريبة في سبيل اجتراح اللامألوف من الأعمال الفنية المنفتحة على المستقبل، مؤسسة على بلاغة المفارقة، وهندسة شكلية أقرب إلى معادلة رياضية أو شفرة معقدة تحتاج إلى دليل قراءة وتفكيك، وفي إثر ذلك يمضي قصيا في مجهول اللغة كيما يظفر بكنوزها الكامنة وراء الحدود، مستعينا بالمخيلة الجانحة اللامشروطة بأي سلطة داخلية أو خارجية.
ما يبدو صورة عن كثب لمنطق الصنعة عند الهمذاني، وما يؤاخذه عنه البعض بالتصنع، إنما هو ترجمان لحداثة كتابة الهمذاني الاستباقية في عصره
في المجمل، هو خروج عن نسق الكتابة العام الذي يطوق مدار التأليف في عصره، القرن الرابع الهجري من الحقبة العباسية الصارخة الحراك.
مهر بديع الزمان الهمذاني ذاكرة النثر العباسي وما بعده، بخاتم ذهبي لا سبيل إلى امّحاء دمغته، ولم يقتصر نبوغه على ابتكار "فن المقامات" كطفرة باسقة في تاريخ السرد العربي، بل أيقظ زوابع عصره المريب، وجعلها تشرئب مطاولة سماء القرن الرابع الهجري، سابغا على شخصه العجيب وتأليفه الأريب، غرابة يختص بها ألمعيو الكتابة المغامرة، ومجترحو المآلات الكبرى لاتجاهات الأدب الجديد، وصانعو الخرائط اللامألوفة للخلق الفني المنزاح.
يلي بديع الزمان الهمذاني من استوعب درسه بحذاقة، متشربا نسغه، وهو أبو القاسم الحريري (446/516 ه)، الذي نسج على منواله خمسين مقامة اشتهرت بمقامات الحريري، وضع لها مقدمة يعترف فيها بأستاذية الهمذاني في ابتكار المقامات التي لا تجارى. وغير المقامات، جرب الحريري هو الآخر أصنافا متعددة من صنعة التأليف وفنون القول، شعرية ولغوية ونحوية... ومنها أدب الرسائل، مع أن أغلب رسائله ضاعت، ولكن بعض المصادر القديمة احتفظ بالنادر منها، كـ"معجم الأدباء" لياقوت الحموي و"خريدة القصر وجريدة العصر" للعماد الأصبهاني، وقد صانا رسالتين شهيرتين: الرسالة السينية والرسالة الشينية.
في هاتين الرسالتين نكتشف الحريري ألعبانا لغويا بدوره، على مقاس الهمذاني، مولعا بالصنعة اللغوية، وهو يجترح غير المعتاد من الأساليب وطرائق الصوغ الفني، مفصحا عن مقدرته العالية هو الآخر في ابتكار غرائب النصوص، المحتكمة إلى خوارزميات غاية في الصعوبة والإدهاش.
فالأولى سميت بالسينية لأن جميع كلماتها مبنية على حرف السين، محض متوالية سينات تتألق في منظومة انسيابية، ذات صدى موسيقي يهسهس فيه جلالة حرف السين: "باسم السميع القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سيرة سيدنا الإسفهسلار، السيد النفيس سيد الرؤساء سيف السلاطين حرست نفسه، واستنارت شمسه، واتسق أنسه، وبسق غرسه...".
أما الثانية فسميت بالشينية لأنها مبنية على حرف الشين على هذا النحو: "شغفي بالشيخ شمس الشعراء، ريش معاشه، وفشا رياشه، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغفي المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشبم الشراب...".
في هاتين الرسالتين نكتشف الحريري ألعبانا لغويا بدوره، على مقاس الهمذاني، مولعا بالصنعة اللغوية، وهو يجترح غير المعتاد من الأساليب
من الطبيعي أن يوظف الحريري في مقاماته هذا النوع من اللعب، لكنه سلك في ذلك مسلكا جديدا، طريفا، بلغ به الحدود القصوى، من خلال ثلاثة نماذج:
- المقامة المراغية: تتضمن رسالة غريبة وبديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، أي أن إحدى كلماتها معجمة والأخرى مهملة: "الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين. واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين. والأروع يثيب. والمعور يخيب. والحلاحل يضيف. والماحل يخيف...".
- المقامة القهقرية: تتضمن رسالة مدهشة، تقرأ من البداية إلى النهاية فتعطي معنى مختلفا، ومعجزا أيضا إذا ما قرئت من النهاية إلى البداية، أي تقرأ من أولها بوجه ومن آخرها بوجه ولهذا سميت بالقهقرية.
- المقامة الرقطاء: تتضمن رسالة عجيبة، آية هي الأخرى في الصنعة وبديع البلاغة إذ أن كل كلمة ذات حرف منقوط وآخر غير منقوط على التوالي: "أخلاق سيدنا تحب. وبعقوته يلب. وقربه تحف. ونأيه تلف. وخلته نسب. وقطيعته نصب. وغربه ذلق. وشهبه تأتلق..."
كلاهما، الهمذاني والحريري، وجهان للعبة واحدة، وإن كانت الريادة تحسب للأول، وتحصيل إعمال النظر في هذا النزوع من التأليف غير المعتاد، ليس محض اعتباط أو ترف، بل تثوير للكتابة جماليا باستحداث طرائق مغايرة في الإبداع، ابتكراه واستبقاه، وقد ألفينا له شبيها في تجارب كونية معاصرة، مثل تجربة "جماعة أوليبو"، خاصة عند أحد أفرادها الكاتب الأميركي هاري ماثيوز الشهير بخوارزمية ماثيوز ممن استخدموا معادلات رياضية في كتابتهم السردية، وأثمر تجريبه أكثر في رواية "سجائر".