"برلين السينمائي"... أفلام استحقت التكريم وأخرى لم تستحق العرضhttps://www.majalla.com/node/312001/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%82%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%88%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%B6
كشفت الدورة الرابعة والسبعين من "مهرجان برلين السينمائي" التي انتهت فعالياتها قبل أيام، عن مجموعة ليست هينة من خيبات الأمل تجاه العديد من الأفلام المرتقبة، مع قلة ما يمكن تسميته بالاكتشافات الثمينة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد برزت مجموعة من الأفلام التي تستحق الاهتمام فعلا، على نحو ربما غير معتاد في المهرجانات السينمائية الدولية، إذ فازت الأفلام الأجود بأهم الجوائز، محققة المستوى المتوقع منها، في حين تأخرت أفلام أخرى عن اللحاق بقطار السينما المتغيرة والمتجددة. ولعلّ الأكمل والأجدر بين الأفلام الفائزة، هو "داهومي" للمخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب التي نالت عن جدارة جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في المسابقة الرسمية. نجحت ديوب في إنجاز عمل يتناول أشباح الماضي وتحديات الواقع الاجتماعي في آن معا، مازجة بين السرد السريالي والواقعية الوثائقية، ومقدمة رؤية متأنية لمسألة الإرث والهوية والتساؤلات حولهما في مجتمعات ما بعد الاستعمار، وتحديدا في جمهورية بنين التي تقع فيها أحداث القصة الحقيقية لاسترداد 26 قطعة أثرية نهبها الاستعمار من أرض بنين.
تحمل تلك القطع الأثرية صوت الراوي، وتستغل ديوب حضورها الغائر في الزمن لتحكي لنا عن ماضي بنين وحاضرها، من دون تهميش للاستعمار وأثره البالغ على المجتمعات التي تحمّلت وطأته. يتنوع السرد ليستعرض التفاصيل الدقيقة لتساؤلات الحاضر التي يطرحها شباب بنين عن هويتهم وعلاقتهم بوطنهم وتاريخهم، ويتأمل السرد كذلك في السياق التاريخي، ليخلق تباينا شعريا يربط الماضي بالراهن، مقدما صورة خاصة واسعة المدى لذلك الإرث المُنتزَع، العائد بعد قرن إلى موطنه في حالة سينمائية تنتمي إلى الواقعية السحرية.
قدمت ديوب رؤية متأنية لمسألة الإرث والهوية والتساؤلات حولهما في مجتمعات ما بعد الاستعمار
يدور فيلم "بيبي" للمخرج الدومينيكي نيلسون كارلوس آرياس في نطاق سردية مشابهة، في إعارة صوت الراوي لبطل غير متكلم، انتُزع من موطنه، تماما كما انتزعت آثار بنين في فيلم "داهومي". الراوي هنا فرس نهر يدعى بيبي، أخذ عنوة من موطنه في أفريقيا إلى أميركا الجنوبية ليستقر في حديقة الحيوانات الخاصة ببابلو اسكوبار، إمبراطور كارتلات المخدرات في القارة. لكن بيبي - البطل والراوي- ينجح في الهروب إلى نهر ماغدالينا الكولومبي، تاركا أثرا من الدمار، ونكتشف معه ومن خلال رحلته سياقات تدمير أميركا الجنوبية، وما خلفته التجربة الاستعمارية من بصمات لا تمحي على وجه القارة التي تشبه أفريقيا في جنوبيتها وثرائها، والتسابق الطويل بين دول الاستعمار على استنزافها وإفقار شعوبها.
The Golden Bear for Best Film goes to "Dahomey" directed by Mati Diop and produced by Eve Robin, Judith Lou Lévy, and Mati Diop. Congratulations!
يختلف الفيلم هنا عن "داهومي" في كون صوت الراوي لا يفقد قدرته على السخرية خلال حكي التاريخ الأسود للاستعمار والعنف، ولا يلوح شبحيا كما جاء ذلك في تماثيل داهومي. يمكن القول إن هذا الفيلم الذي فاز مخرجه الكولومبي بجائزة أفضل إخراج في المسابقة الرسمية، هو أحد أقوى الأعمال التي ُعرضت من حيث الصورة، متميزا بوقود بصري يجعله خارقا على مستوى المكاني، وبارعا عند تنقله وسفره في الزمن، الأمر الذي حققه من خلال الاستعانة بالمزج بين اللقطات الأرشيفية والمناظر الطبيعية بألوانها المتنوعة، وإعادة تمثيل المشاهد التاريخية، كل ذلك من خلال خلطة تجريبية تجمع بين استخدام الكاميرا الرقمية وفيلم 16 مم، متلاعبا بدرجات الألوان، بالإضافة إلى الأبيض والأسود في مرات، مستخدما كذلك الشاشة العريضة، وأخرى بأطوال 3:4. نجح المخرج في كثير من محاولاته للتجديد على المستوى التقني من دون أن يتورط في تهميش العناصر الصوتية. لكن للأسف، مع تقدم الفيلم، فإنه يخسر بريقه ويفقد توازنه تدريجيا، ويبدأ في التحول إلى عشوائية متخبطة تفقده قدرا من سحره.
احتياجات مسافر
فيلم آخر لافت، حصد الجائزة الثانية في المهرجان وهي الدب الفضي الذي يمثل جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وهو فيلم "احتياجات مسافر" للمخرج الكوري الرائع هونغ سانغ سو. في هذا الفيلم قدم المخرج وافر الإنتاج تعاونا ثالثا مع إيزابيل هوبير بعد فيلميهما "في بلاد أخرى" (2012) و"كاميرا كلير" (2017). عمل غامض في شخصياته ومفاجئ في سخريته، يحمل نسائم سينما سانغ سو كما عودنا في جلساته وحواراته وتلاعباته في هيكل السرد، حيث تنطلق أحداث الفيلم عند امرأة فرنسية تدّعي أنها معلمة جاءت إلى كوريا بلا ماض، ونلتقي - في جولاتها غامضة الهدف- على مدار يوم واحد بطلابها، وهم شابة كورية، ثم زوجان، وأخيرا فتى تسكن عنده من دون مقابل. ومن خلال هذه اللقاءات، نرتطم بحواجز اللغة وطبقات التعبير وحدود الكلمات، وسوء الفهم الذي يعبر بشخصياته إلى مختلف المصائر، هو فيلم حقيقي وكوميدي عن التواصل الذي يقود العلاقات الإنسانية.
من بين مختلف الأفلام، قد يكون "فعل مباشر"Direct action للمخرج التجريبي الأميركي بن راسل، والفرنسي غيوم كيو أفضل عمل عرض في الدورة الأخيرة من المهرجان، وقد حاز جائزة أفضل فيلم في قسم "لقاءات". هذا الوثائقي الذي تتجاوز مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة، يحمل أفضل النزوات السينمائية، ويقدم صورا مجردة وفاحصة ومنضبطة، تلتقط واحدا من أهم مجتمعات الناشطين الشيوعيين في فرنسا، وتسلط الضوء على المجتمعات الهائجة روحيا والساكنة في يومياتها. يصور الفيلم - الصامت في أغلب مشاهده- مجموعة من المشاهد المتوالية الطويلة التي تقترب من تفحص الإيماءات. تغور بدقة في عملية الفعل بصورته المتمددة، ليدخل حالة من الانهمار العميق في المساحات التي تفصل الفرد عن فعله، والذي يشيّد الفيلم من خلالها الخلفية بإتقان، إلى أن يتفجر الفيلم أخيرا عندما يحدث الهيجان وترفض الروح الظلم وتُقصف بالمقابل. وفي منعطف مفاجئ، تصرخ إحدى الشخصيات "لا يجب عليك أن تصور هذا"، ليرسم الفيلم حدودا بين الجماليات والفظائع، ويدرس ما يجب وما لا يجب، ما يمكن وما لا يمكن.
وبعيدا من الأفلام الفائزة، وقريبا من السينما العربية، قد يكون الحضور الأبرز لفيلم التونسية مريم جعبر "ماء العين"، وهو فيلمها الطويل الأول والذيُ عرض في المسابقة الرسمية كنسخة طويلة من عملها القصير "أخوان"، الذي حقق أصداء كبيرة حين ُعرض في 2020. فيلم "ماء العين" يتناول حكاية امرأة تونسية تعيش في ريف الشمال التونسي، تجد نفسها في أعمق درجات الحيرة والحزن بعد رحيل اثنين من أبنائها الثلاثة للانضمام إلى تنظيم "داعش" في سوريا، ثم يصحبنا الفيلم في رحلتها بحثا عن الحقيقة عند عودة أحد الولدين من الحرب من دون الآخر، مع امرأة اتخذها زوجة له، وتنطلق بعودتهما موجة منفلتة من الغموض والعنف في أنحاء القرية الهادئة.
تكمن إشكالية "ماء العين" بعكس ما يعتقد الفيلم بأنه نجح في تحقيقه، وهي حدّه الواضح من إمكانيات السينما وتقييدها
وعلى الرغم من أن الفيلم جاء متأخرا مقارنة بسلسلة الأفلام التي تناولت هذا الموضوع خلال السنوات الماضية، إلا أن "ماء العين" لم يكن على مستوى الترقب والانتظار. وتكمن إشكاليته الرئيسية بعكس ما يعتقد الفيلم بأنه نجح في تحقيقه، وهي في حدّه الواضح من إمكانيات السينما وتقييدها، بقدر ما ظن بأنه أطلقها وكسر حواجزها. ويأتي هذا نتيجة الاعتقاد السائد بين صناع السينما العرب بأن جودة الفيلم تُقاس بقدرته على إثارة التعاطف لدى المشاهدين، حيث يتجه اهتمام جعبر نحو كيفية هز مشاعر المتلقي بأقصى درجة ممكنة، وتوظيفها الأدوات المختلفة بغرض تحقيق هذا الهدف. فجماليات الصورة مصممة لهذا الهدف، وكذلك أفعال الشخصيات ومشاعرها بما في ذلك الخوف أو اللعب، وحتى الضحك.
وفضلا عن الكليشيهات التي تحملها قصة فيلم "ماء العين"، إلا أنه يعتمد أيضا على أكثر الأساليب والتقنيات السينمائية ابتذلا، حيث التقنية مخصصة لتبث هذه المجموعة المحددة من المشاعر بأقصى درجة حتى وإن كانت في غير محلها، بما في ذلك لقطات لبث الحزن، وأخرى لبث الرعب، وبث التعاطف والألم، والمفاجأة.